محيرة الفراشة، جميلة تنتمى إلى فصيلة الحشرات، حياتها متعددة المراحل تتحول من بيضة إلى يرقة إلى شرنقة إلى فراشة، أنواعها كثيرة تصل إلى 17500 نوع، يطير بعضها لمسافات قصيرة وأخرى لآلاف الأميال، وتحتاج الفراشة إلى منطقة محمية تلتصق بها حتى تتم دورة حياتها، وتعتمد عليها لتعيش بدايتها، تنطلق بعدها مختالة بألوانها الخلابة، مهما طال عمرها لا يتعدى ستة أشهر. نعود إلى فراشتنا الجميلة نرجس، تلك الفاتنة التى صعدت بسرعة مذهلة فى بلاط صاحبة الجلالة، كان الفضل الأول للكاتب الكبير الذى رشحها لتكون مديرة مكتب القاهرة لمجلة نسائية خليجية كان يعرف مالكيها، ومن أجل خاطره، جعلوا راتبها الشهرى أربعة آلاف جنيه فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى، كان مبلغًا كبيرًا حينذاك، طالتها شائعات عن علاقتها بهذا الكاتب، وتوسع الأمر ليطال آخرين، وترددت فى مؤسستها الصحفية أقاويل لشهود ادعوا أنهم رأوها بصحبة شخصيات مرموقة كانت تنزل معهم فى بعض فنادق القاهرة الكبرى. ربما تكون الشائعات صحيحة وربما لا، لكن نرجس التى أعرفها كانت ضعيفة تجاه شيئين لا ثالث لهما: المال والثناء على جمالها، لم تقف الشائعات حائلاً أمام نرجس، قابلتها بعدم اكتراث، وكأنها تحوَّلت لسكارليت فى فيلم «ذهب مع الريح» حين نصحها كابتن بتلر أن ترمى من قارب حياتها كل ما يثقل إبحاره، وأكثر ما يثقل خطوات الإنسان الاهتمام بكلام الناس. طموح نرجس الجامح أثر على حياتها الزوجية، ولم يعد زوجها يملأ عينيها، انتهى الأمر بالطلاق وتركت ابنها فى رعاية أبيه لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها. «ولكنى أنا نرجس المعشوق لا أتطلع إلا إلى جوهرى الفرد، غيرى ليس أكثر فى نفسى من نفس مجهولة، غيرى ليس سوى غيب وعدم». بول فاليرى هكذا عاشت نرجس، تتطلع فى العيون لترى نفسها، استطاعت أن تحصل بسرعة على منصب رئيس قسم فى مؤسستها الصحفية، ومنه بدأت الخطوة التالية: الانتشار فى الفضاء الإعلامى والثقافى، ترتاد القهاوى والمنتديات الثقافية، وتحرص على حضور الندوات السياسية لرجالات الحكم، أينما حلت تدير الرؤوس، عرفت الكثير وتعلمت الكثير وقابلت الكثير. فى أواخر التسعينيات بدأت مصر تعرف الوعى البيئى، وكانت أول مَن تنبه إلى ذلك، كتبت تحقيقًا مهمًّا عن تلوث مياه الشرب بالمبيدات فى إحدى قرى الصعيد، مما تسبب فى حالات مرَضية ووفيات. حقق لها التحقيق شهرة كبيرة، وتوالت نجاحاتها واستطاعت أن تحصد عدة جوائز صحفية فى مصر، وكانت من أوائل مَن حصلوا على جائزة الصحافة العربية بدبى بعد ذلك بسنوات، وجدت نرجس فى البيئة مجالاً بكرًا لا ينافسها فيه أحد، فقررت أن تستفيد منه لأقصى حد، أسست جمعية لنشر الوعى البيئى واستطاعت أن تحصل على منح من الاتحاد الأوروبى بفضل علاقاتها الواسعة، واتخذت من وسط البلد مقرًّا للجمعية ولمكتبها الخاص. بعد طلاق نرجس عادت لتعيش فى منزل الأسرة بالظاهر، ثم انتقلت مستقلة فى شقة صغيرة فى شارع التحرير بالدقى، ثم إلى شقة الأحلام فى الزمالك. عملت نرجس بجد حتى تصل إلى ما وصلت إليه، كان حليفها الجمال والحظ. فى أثناء رحلتها عرفت الكثير من الرجال، اكتفت بعلاقات عابرة تتخلص منها قبل أن تفوح رائحتها. وجدت نفسها وقد تخطت الأربعين وحيدة وهى فى منصب نائب رئيس تحرير، وفى يوم دخل مكتبها محرر فى القسم الثقافى يشكو لها رئيس قسمه، شاب فى العشرينيات من عمره وسيم وممتلئ رجولة، يعيش فى حجرة مفروشة فوق سطوح أحد المنازل فى حدائق القبة. لا أحد يعرف حقيقة ما حدث، لكن نرجس أعلنت بعد شهر واحد أنها تزوجت سمير، الذى انتقل ليعيش معها. تعرضت لحملة سخرية وتهكم وقلة أدب لا تحتملها امرأة، بداية من رجال الأمن فى المؤسسة وحتى زملائها ورؤسائها، ولكنها لم تهتز كعادتها. أنجبت منه ابنها الثانى، واستطاع سمير بفضلها أن يصبح واحدًا من أهم الصحفيين فى مجال الفن، وتحوَّل إلى ناقد سينمائى له زاوية أسبوعية فى عدة مجلات عربية، عرف النجاح والشهرة والمال وبدأ فارق السن يبدو جليًّا، بعد سنوات اكتشفت أنه تزوج بصحفية شابة ويعيش معها فى أكتوبر فى شقة ملكه، وطلبت الطلاق. زرتها بعد طلاقها، شعرت بمدى حزنها وألمها، لأول مرة أشعر أنها امرأة ضعيفة منكسرة، ولكنها قالت بواقعيتها المعهودة: كان لازم ده يحصل. تركت نرجس مؤسستها الصحفية بعد أن عرض عليها رئاسة تحرير مجلة عربية التمويل، لم أسمع عن نرجس شيئًا حتى قابلتها الأسبوع الماضى فى مؤتمر حزبى، فى أثناء الاستراحة تجاذبنا أطراف الحديث، كان هناك شاب صغير يلتقط لها الكثير من الصور وهى فى القاعة وبعد خروجها وفى أثناء احتسائها الشاى، اعتقدت أنه مصور صحفى فى المجلة التى ترأس تحريرها، ولكننى وجدته يتعامل معها بحميمة زائدة، يضع يده على كتفها، ويرفع خصلة شعر عن عينها. بذكائها المعهود أدركت حيرتى، ضحكت ضحكة قصيرة فاترة وقالت: «ده محمد زوجى، صحفى ومصور فى المجلة»، هذه المرة شعرت أنها مرتبكة، لم تعد هذه المرأة القادرة على تحمل نظرات السخرية. انتهت الاستراحة ودخل الحضور القاعة من جديد، ولكن نرجس وزوجها الشاب لم يكونا بيننا.