من الصعب على أى صاحب مهنة أن تصبح مهنته "مهنة من لا مهنة له" يدخلها من يشاء بلا تخصص ويترقى بها بلا ضوابط. فمن الممكن فى مهنة الصحافة خصوصا، والإعلام عموما، أن تصبح إعلاميا أو صحفيا مهما كان المؤهل الحاصل عليه، بل من المكن أن تصبح رئيسا لتحرير صحيفة بمجرد حصولك على عضوية النقابة، فالضابط الوحيد هو رضا رئيس مجلس الإدارة أو صاحب المؤسسة الصحفية الخاصة عليك، أعرف رئيس أحد الأحزاب السياسية القديمة قام بتعيين صحفى لصحيفة حزبه فور حصوله على عضوية النقابة بعد حصوله على مؤهل عال من إحدى كليات التعليم المفتوح، بعد 20 عاما من ممارسة المهنة بمؤهل متوسط . لا أسوق هذا المثال لا سمح الله بقصد إهانة "الزميل" الذى قد يكون أكثر مهنية من العشرات من خريجى كليات وأقسام الإعلام من أمثالى، ولكن المشكلة فى المهنة التى حرص النظام المخلوع أن تكون بلا ضوابط، فأى مهنة يجب أن يكون لها مؤهلات وشروط للالتحاق بها، وأتذكر أننا ونحن طلاب فى قسم الصحافة والإعلام بجامعة الزقازيق كنا نعتقد أن التخصص والموهبة هما الطريق الوحيد للدخول إلى بلاط صاحبة الجلالة، ولكننا صدمنا برد نقيب الصحفيين الأسبق إبراهيم نافع فى عام 1995، الذى رفض مجرد مناقشة وضع للالتحاق بالمهنة، ربما لأسباب انتخابية، رغم أن مطالبنا لم تزد عن التالى: أن يكون العمل بالمهنة قاصرا على خريجى كليات وأقسام الصحافة والإعلام، مع السماح للموهوبين من التخصصات الأخرى بالالتحاق بالمهنة، بشرط أن يحصل على دبلومة فى الإعلام -ولو لمدة عام- يدرس فيها مهنة الصحافة وميثاق الشرف الصحفى وغيرها من المواد العلمية التى يحتاجها الصحفى كزاد ثقافى فى عمله. لكن كان واضحا أن نظام المخلوع لم يكن حريصا على وجود جيل من الإعلاميين المحبين المعتزين بمهنتهم، بل أرادها "مهنة من لا مهنة له" عن الالتحاق بها، ومهنة المرضى عنهم عند اختيار القيادات الصحفية فى التليفزيون والمؤسسات الصحفية القومية. قد صنع نظام مبارك على عينه "شلل صحفية" فكانت شلته فى "الأهرام" التى كانت تسبّح بحمده بشكل مباشر على اعتبار أنها الصحيفة الشبه رسمية للدولة، وكذلك الحال فى "الأخبار" و"الجمهورية"، حتى فى المؤسسات القومية التى كانت أقل فى التوزيع والقبول، مثل "روز اليوسف" و"المصور" وغيرها، فقد حرص نظام المخلوع على إسناد القيادة الصحفية للصحفيين اليساريين والناصريين، وعلى إعطائهم هامشا من الحرية بعض الشىء كاملة لتشويه الإسلاميين، وأتذكر أن مجلتى "روز اليوسف" و"المصور" قد تخصصتا فى تشويه الرموز الإسلامية، وكبار الدعاة، ومقالات مكرم محمد أحمد فى "المصور" التى تسخر من الإسلاميين عموما، وعادل حمودة وإبراهيم عيسى، التى حاولت النيل من الشيخ الشعراوى وغيره من العلماء فى بداية التسعينيات موجودة فى أرشيف المجلتين ومواقع النت. الخلاصة أن النظام البائد كما أفسد كثيرا من المهن، كان لمهنة الصحافة النصيب الأوفر من بداية الالتحاق بالمهنة، حتى تقلد أرفع المناصب بها، وأتذكر فى بداية التسعينيات كذلك، أن زميلة نجحت فى اختبارات التليفزيون وتم سحب الكارنيه الخاص بها، والاستغناء عنها فى فترة الاختبار؛ لأنها تصدت لمسئول كبير جدا بالوزارة حاول التحرش بها! وهكذا حرص النظام المخلوع على أن يصبح الإعلام -الحكومى منه والخاص الذى سمح به لرجال أعماله المقربين- أداة فاعلة فى نشر الشائعات، وتسطيح العقل، وبث الأكاذيب، وتجهيل الشعب وتضليله، وتقديم المواد التافهة لتسليته والانحطاط بمستواه. ولما قامت الثورة، أيقنت هذه "الشلل الصحفية" التى غزت التليفزيون الرسمى والفضائيات الخاصة أنها لا بد لها من البحث عن سيد جديد، وأن "أكل عيشهم" الذى يبلغ مئات الملايين سنويا لن يستطيع أى نظام اختاره الشعب أن يدفع فاتورته، كما أن النظام المنتخب لن يسمح لرجال أعمال مبارك أن يستمروا فى نهب ثروات الوطن، أو التهرب من حقوقه، ولذلك كان القرار الجماعى لاتحاد الشلل الصحفية والإعلامية بالسيطرة على جميع الفضائيات والصحف الخاصة. لقد أصبحت الصحف والقنوات الفضائية بفضل هذه "الشلل" الإعلامية التى صنعها نظام مبارك على عينه منصات لتضليل الناس، وإشاعة الشك والبلبلة، والتحريض على العنف، ووصف البلطجية بالثوار والمتظاهرين، وقلب الحقائق، وليس ما حدث أمام مكتب الإرشاد يوم الجمعة الماضى ببعيد.