«زمان كان مدرس الحساب يعتقد أننى حمار وكنت أعتقد أننى عبقرى، وبعد فترة طويلة من الزمان اكتشفت أن المدرس كان على خطأ، واكتشفت أيضا أنى لم أكن على صواب، فلا أنا عبقرى ولا أنا حمار، بصراحة أنا مزيج من الاثنين، العبقرى والحمار.. أنا حمقرى!. ولأنى حمقرى، فقد كنت أظن أن كل رجل ضاحك رجل هلاس، ولأننى حمقرى كنت أرفع شعارًا حمقريًّا (أنا أضحك إذن أنا سعيد)، وبعد فترة طويلة من الزمان اكتشفت أن العكس هو الصحيح، واكتشفت أن كل رجل ضاحك رجل بائس، وأنه مقابل كل ضحكة تفرقع على لسانه تفرقع مأساة داخل أحشائه، وأنه مقابل كل ابتسامة ترتسم على شفتيه تنحدر دمعة داخل قلبه». هكذا وصف السعدنى نفسه، فهو كاتب يختمر الحزن فى قلبه، ليُخرجه لنا ضحكًا، وأدبًا، وفنًّا، وسخرية، فهو ليس كاتبا وحسب، بل هو أُمة من الكُتاب، والمثقفين، والمفكرين، والمبدعين، والساخرين، لذا لم أحزن أنى لم ألتقِ كاتبا مثل حزنى، وأنى لم أجلس بصحبة العم محمود السعدنى، رغم أنه متاح أن تقابله فى نادى نقابة الصحفيين حيث يقابل أى أحد يطرق بابه، لكن عرفت الطريق متأخرًا بعد أن تمكن منه المرض وصار لا يغادر بيته، وحين كرَّمته نقابة الصحفيين، ذهبت فرحًا أنى سأراه فى احتفالية النقابة، لكنه لم يأت ويومها وقف أخوه الفنان صلاح السعدنى قائلا: «طبعا أنتم الآن كمن ينتظر محمد عبد الوهاب فجاء إليهم شعبان عبد الرحيم»! لكن قبل قرابة نصف قرن من هذه الواقعة، وتحديدا فى عام 1946 بدأ محمود السعدنى حياته الصحفية فى جريدة كان مقرها إسطبلا لحمير أحد المماليك البحرية! لكن حياته تغيرت حين ذهب إلى مأمون الشناوى فى مجلة «كلمة ونص»، واستقبله مأمون بعدم مبالاة ولم يرحب به، وقال له: «عاوز تكتب؟ ولمّا أجاب بالإيجاب، تساءل فى تهكم: وبتعرف تكتب؟ فأجابه: نعم، فأشار على مكتب أمامه وقال اقعد كده ورينى.. «ورغم ارتباكى الشديد وخوفى من الفشل فى أول امتحان حقيقى أواجهه.. فقد كتبت عدة أوراق بسرعة.. وعندما ألقى عليها نظرة قال وهو يتفحصها، إنت اسمك إيه؟» وهتف على الفور: محمود السعدنى، فسأله وهو يشعل سيجارة أنت عارف السعدنى يعنى إيه؟ ولما أجابه بالنفى، قال: السعدان يعنى القرد، والسعدنى يعنى القرادتى! وفكر السعدنى أن يلعن جدوده وينصرف، لكنه تسمر فى مكانه كالتمثال لا يتكلم ولا يتحرك حتى قال له مأمون: «أبقى فوت علينا تانى!. وفى العدد التالى من المجلة وجد السعدنى ما كتبه منشورًا، فعاد إلى الشناوى، وأصبح محررًا براتب ستة جنيهات، وصارت بينهما صداقة طويلة وممتدة. وفى عام 48 قرر الولد الشقى التطوع فى الجيش والذهاب إلى حرب فلسطين بصحبة صديقه الفنان طوغان، لكن بعد الكشف عليهما تم رفض السعدنى؛ لأنه كان دقيق الحجم، فقال طوغان للقائد: «أنا ما ينفعش أروح أحرر فلسطين لوحدى من غير السعدنى»! وعادا سويا، واستمرت صداقة العمر، وحين سمعا بيان ثورة يوليو طارا فرحا، وخلع السعدنى حذاءه ليُقبله، وأصبح مندوبا لمجلته فى القيادة العامة؛ لأن المسؤولين عنها لم تكن لديهم قناعة بالثورة، لذا المجلة قررت أن تُرسل أقل المحررين شأنًا! وحين وقع العدوان الثلاثى كان الولد الشقى فى سوريا، وانقطعت الصلة بين مصر وسوريا، فأسس مجلة هناك لمناصرة مصر، وفى هذا الوقت نشأت بينه وبين السياسيين فى سوريا علاقة قوية ومنهم خالد بقداش، وكان زعيم الحزب الشيوعى فأعطى خالد خطابا للسعدنى ليسلمه لعبد الناصر، لكن صديقه طوغان نصحه بتمزيقه، ولكن الولد الشقى أصر وذهب إلى الرئاسة وسلم الخطاب، فتم اعتقاله، ويومها سألوه عن التنظيم الذى ينتمى له فقال لهم: «زمش» فتعجب الضباط لأنه لا يوجد تنظيم بهذا الاسم فقال لهم: «لأنى لا شيوعى، ولا إخوان، ولا أى حاجة». ورحل عبد الناصر، وجاء السادات، وتجددت الاتهامات للسعدنى، وتم استجوابه من النائب العام على أنه شارك فى مؤامرة لقلب نظام الحكم، لكن بعد التحقيق الذى استمر يومين تم الإفراج عنه، لكن فى ذات التوقيت صدر قرار من الرئيس السادات بفصله من روز اليوسف، ومنع نشر اسمه فى الصحف بسبب عدة نكت رواها لأحد أصدقائه عن الرئيس! وتم تعيينه فى المقاولون العرب، لكنه رفض قائلا: «لقد كنت صحفيا، وسأبقى صحفيا، وسأموت صحفيا، وسأبعث يوم القيامة فى كشف نقابة الصحفيين»، وسافر وعاش سنوات من النفى الاختيارى انتقل خلالها من بلد إلى بلد «بلاد تشيل وبلاد تحط» حتى عاد إلى مصر بعد رحيل الرئيس السادات. السعدنى تخصص فى نقد السلطة، والسخرية من أفعالها، والضحك على منافقيها وأفاقيها، فصارت كتبه مُتحفا أنيقا يضم قطعا أدبية تُشرّح الحُكم، ومن فيه، ولعل أكثر الكتب التى شرحت ما يجرى فى مصر كان كتابه «عودة الحمار» وتحديدا تلك القطعة التى يقول فيها: «ليس للمواطن فى بلاد الحمير إلا أن يمشى وراء الرئيس، فهناك متناقضات كثيرة فى العصر الحميرى، منها أن لدينا ديمقراطية واسعة وبلا حدود فى كل شىء إلا فى السياسة!. فى المرور تستطيع أن تمشى على اليسار أو على اليمين لا شىء يهم، وفى الدنيا كلها ممنوع استعمال الكلاكسات منعا باتا للتلوث السمعى، وفى بلاد الحمير توجد أعظم فرقة موسيقية فى العالم وهى السيارات التى تجرى على الطريق. العكس تماما يحدث فى السياسة ليس أمام المواطن إلا التطرف، من حقك أن تطيل ذقنك حتى تصل إلى ركبك، ومن حقك أن تربى شعر حواجبك ورموش عينيك وتصبح درويشًا، ومن حقك أن تكون متطرفًا حكوميا وتموت حبًّا فى الحكومة، أما إذا أردت الوقوف فى الوسط فنهار أبوك أزرق لن تحصل على بلح الشام أو عنب اليمن». أشعر أن لقب «عمنا» خُلق من أجل محمود السعدنى، وأشعر أنه الأحق دائما بهذا اللقب رغم كثرة الأعمام، فهو عمك قولا وفعلا، رضيت أو لم ترضَ، أحببته أو اختلفت معه. فمصر فى نظر المحترفين سلسلة طويلة من الأمراء والملوك والسلاطين، ولكنها فى نظر عمنا محمود السعدنى مجموعة متصلة من الأجيال والصياع وأصحاب الحاجات والمتشردين. مصر فى زمن السلاطين لم تكن قلاوون أو قطز أو عز الدين أيبك أو على بك الكبير، ولكنها كانت الحرافيش والحشاشين، ومصر أيام عبد الناصر لم تكن الرئيس ونوابه، ومدير المخابرات وأجهزة الاتحاد الاشتراكى، ولكنها كانت العمال والفلاحين والرأسمالية الوطنية والجنود والمثقفين، ومصر أيام السادات لم تكن هى الرئيس وزعماء المنابر أو تجار الشنطة وأصحاب بوتيكات شارع الشواربى وأصحاب الكباريهات ورواد الحانات، لكنها كانت ملايين الشحاتين والمتسولين والذين يعانون المرض وخيبة الأمل والجوع. هذا هو الفارق بين أن تقرأ تاريخ مصر لكاتب بقيمة، وقامة، وثقافة، وعلم، ورؤية، وموسوعية، وألمعية، وخفة ظل، وصدق، وإخلاص الولد الشقى محمود السعدنى وأن تقرأه من محترفى كتابة التاريخ، فالسعدنى ينظر نظرة رجل من الشارع غير متخصص وغير كمسارى -على حد تعبيره- وعلى غير علاقة رسمية بالتاريخ! هذه هى الميزة الأعظم فى كتب السعدنى بوجه عام، وبصفة خاصة فى كتابه «مصر من تانى» الذى يجب أن يلتفت إليه القائمون على التعليم ليتم تدريسه إلا إذا كانت هناك سياسة تفرض أن يكون كتاب التاريخ ثقيل الظل، قليل المعرفة، يحتوى على القشور، ولا يحوى إلا تاريخ الرؤساء والملوك، وأن يكون تاريخ الحكام هو تاريخ الدولة، وأن الشعوب لا يجب أن تظهر فى كتاب التاريخ. السعدنى يكتب ما ينطقه، ويُطوع اللغة لخدمة أفكاره، وفى حضرته ينسى الجميع تماما أنهم قادرون على الكلام، فأى متكلم فيهم لا بد أن يصيبه الإحباط فى الحال إذ هو لا يملك شيئا، ولو يسيرًا من خفة الظل هذه، ولا كل هذا الثراء من الحكايات والمواقف والتجارب، ولا هذه القدرة على ربط كل هذه البوارق ببعضها فى لغة سحرية باهرة، لذا يفضل الجميع الصمت والإنصات.