تلك ثقافة مصرية خالصة، ربما هى مستمدة من المثل الشعبى: «صباعى لو وجعنى أقطعه»، رغم أن هناك شيئًا اسمه العلاج، لكن إذا كان المصرى يردّد هذا المثل إظهارًا للصمود والاعتزاز بالموقف وعدم السماح لأى شىء بأن يكسر إرادته حتى لو كان إصبعًا فى اليد، فالحكومات والسياسيون والنخب دائمًا ما تنتهج ذات النهج استسهالًا من جانب، إما لأنها واثقة من انعدام كفاءتها فى العلاج، وإما لأن الكسل والبلادة يضربان عقلها، أو لأسباب أخرى لا نعرفها. خذ مثلًا حين وضعت لجنة الخمسين الدستور الحالى، توحَّدت مع نخب كثيرة على ضرورة إلغاء مجلس الشورى، وهو ما حدث بالفعل، ليصبح البرلمان فى الدستور غرفة واحدة، لكن لماذا تم إلغاء مجلس الشورى، لأنه كان طوال تاريخه مجلسًا بلا دور ولا قيمة، مجرد ديكور ومكلمة، وجراج لتكريم رجال الدولة، واسترضاء بعض رموز المعارضة والإعلام. هذا مجلس سيئ إذن، فيكون الحل فى إلغائه لا فى تطويره وتعديل نظامه وصلاحياته وطريقة انتخاب أعضائه، خصوصًا أن الصلاحيات الواسعة جدًّا المتاحة للبرلمان فى الدستور، قد تجعل من المناسب وجود غرفة أخرى للبرلمان، تُحدث قدرًا من التوازن بين الرئيس ومجلس النواب، لكن الخيال فى مصر يتوقَّف عند حل المشكلات بتغيير الأسماء أو بإلغاء كل ما يمكن إلغاؤه من مصادر الإزعاج. بذات هذه الثقافة تبدو الهجمة على الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنوع والحزبية وحرية الإعلام والشباب، الانطباعات بعد السنوات الثلاث أن هذا الانفتاح هو الذى أحدث الفوضى والانفلات فى المجتمع، لذلك يصبح الحل ليس فى ضبط الفوضى والانفلات، بالقانون الذى يؤدِّى مهمته دون جور على الحرية وقيم وآليات الديمقراطية، وحقوق الإنسان، كما يجرى فى العالم كله، إنما بإلغاء كل شىء، وإعادة بحر السياسة إلى الركود، وشل الحراك العام، ودعم خطابات التخوين والتحريض على انتهاك القانون والدستور. الإلغاء هو الحل الأسهل، وهو الطريقة المجربة المتناغمة مع عقل دولة ما زالت تتحرَّك بذات ذهنية الماضى القريب والبعيد. بعيدًا عن السياسة، الأيام الماضية أيضًا حصلت الحكومة على تأييد قضائى لقرارها بوقف استيراد الدراجات البخارية والتوك توك ومكوناتها، وبدأت فى بعض المحافظات حملات مكبرة لجمعها من الشوارع، لأن أغلبها غير مرخَّص. لم تكتشف الحكومة فجأة أنها غير مرخصة، ووجود هذه المركبات فى الشارع سابق للثورة، وبدأ فى ما يصفه البعض بزمن الاستقرار وهيبة الدولة وقوة أجهزتها الأمنية، تبرر الحكومة موقفها بأن هذه المركبات تستخدم فى عمليات إرهابية! السيارات أيضًا تُستخدم فى عمليات إرهابية، فهل سيتم إلغاؤها؟! على الحكومة واجب كبير سواء فى مكافحة الإرهاب أو فى ضبط الشارع وإعمال القانون، لكن قراراتها يبدو فيها قدر من الاستسهال والجنوح نحو الإلغاء، بدلًا من أن تضع نظامًا صارمًا لترخيص هذه المركبات وتحديد أماكن عملها ومساراتها القانونية، مَن يقودها وأين؟ وضمان عدم سيرها فى الشوارع الرئيسية. تدرك الحكومة كما يدرك خبراؤها الاقتصاديون أن أكبر عملية تشغيل فى السنوات العشر الأخيرة كانت مع دخول التوك توك مصر، ماذا ستفعل الحكومة مع هؤلاء الذين تركتهم يرتزقون منه. لا أعتقد أن الحكومة فكَّرت فى مصير كل هؤلاء، كما فعلت مع الباعة الجائلين، حيث حلَّت مشكلتها كحكومة بإخلاء الشوارع من الباعة، ولم تقدّم جديدًا لتنظيم الباعة الجائلين أو حصرهم، أو تحاول تحفيزهم للحاق بالاقتصاد الرسمى، فقط ذهبت بهم إلى سوق لا يرتادها أحد. دور الحكومات أن تضع القواعد، وأن تضبط الشوارع، وأن تنفِّذ القانون، وأن لا تترك الثغرات لنمو العشوائيات فى الشارع، ثم تترك هذه العشوائيات تتوحَّش، وتصبح ذات أبعاد إنسانية كبيرة، ثم تقرر التصدِّى بالإلغاء لا التنظيم. هل الأزمة فى التوك توك والبائع المتجوّل أم فى الدولة العاجزة عن التنظيم، إما بسبب تدنِّى كفاءة جهازها الإدارى، وإما بسبب فساده، وإما لكلا السببين معًا؟ هذه دولة عاجزة عن إصلاح أو إعادة هيكلة أى شىء، فتختار بتر الأصابع التى توجعها واحدة بعد الأخرى، من السياسة إلى الشباب إلى الإعلام إلى الجامعة، حتى وصلت إلى سائق التوك توك.