تقترب ذكرى ثورة يناير وقد قطعنا أربع سنوات، بعد هذا الحدث الذى بدا مبهرًا ملهما لكل العالم، كاشفًا عن إمكانيات شعب عظيم، صبر على القهر والاستبداد والفساد، لكنه كان صبر القادر العارف، وحين قرر أن ينتفض تقدمت طليعة من شبابه ليس لهم انتماء سوى إلى ترابه الوطنى، لرفع راية التغيير بكل ما تحمله نفوسهم من طهر ونقاء وخيال، يستشرفون مستقبلا واعدا ينعم فيه الشعب بحقوقه ككل شعوب العالم، أربع سنوات ضربت فيه منطقتنا زلازل وبراكين، فلم يبقَ حجر على حجر، تزلزلت ممالك ودول وعروش، وبدا أن عالمنا يتغير، ورغم أننى لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة التى ترى التاريخ مؤامرة كبيرة فإننى لا أستطيع أن أتجاهل كل ما جرى فى منطقتنا من ألغاز، بدأ الحراك فى تلك المنطقة من العالم مع الثورة التونسية ثورة الياسمين، التى كانت رائدة فى كل شىء، سواء فى توحد كل القوى التى قامت بالثورة واصطفافها خلف مطالب واحدة وواضحة قبل الثورة وفى أثنائها، أو حتى بعد سقوط رأس النظام والانتقال إلى مرحلة بناء المؤسسات التى بدأت بالتوافق حول جمعية تأسيسية لكتابة الدستور التوافقى، وإنجاز الانتخابات التشريعية بعدها كمحطة ثانية، تم إنجازها على مهل ودون تعجل، وها هى تونس تتأهب بعد أيام قليلة لإنجاز المحطة الثالثة فى طريقها نحو الديمقراطية وهى الانتخابات الرئاسية، التى يتنافس فيها عديد من المرشحين، بلا شك أسهمت عوامل متعددة فى أن تمضى تجربة تونس بهذا الشكل، فتفلت مما جرى فى مصر أو حتى ليبيا، أول هذه العوامل اللياقة الذهنية والفكرية للشعب التونسى، التى أسهمت فى توفير أجوائها حقبة بورقيبة من تعليم راقٍ وثقافة، كانت نتاج ثقافة تسللت فى نعومة من الشاطئ الآخر إلى المتوسط، حيث فرنسا التى تبدو آثارها واضحة على الشخصية التونسية، استنارة وانفتاحا، إضافة إلى موقف حركة النهضة اللاعب الأهم فى الساحة التونسية، الذى لم تغرِه النسبة التى حققها فى أول انتخابات أجريت بعد الثورة، احتل فيها المقدمة، ولم يدفعه هذا إلى الاستئثار بالحكم، بل إدراة ترويكا مع شركاء الوطن من ليبراليين ويساريين، فى مجافاة واضحة لسلوك نظيره فى مصر الذى رفع راية مشاركة لا مغالبة، ثم انخرط فى مغالبة لا تعرف الرحمة، أطاحت به فى النهاية، وفى طريق ذلك أطاحت بالتجربة كلها لحساب تطورات أخرى، كان لاختلاف موقف الجيشين فى مصر وتونس أيضا أثر مباشر فى ما حدث، فبينما التزم الجيش التونسى الحياد، حيث لم يكن يوما أحد اللاعبين فى السياسة التونسية، لقوة الحالة المدنية من جانب واستجابة إلى تقليد حافظ عليه بورقيبة وكرَّسه منذ تأسيس الدولة، كان بالمقابل الجيش المصرى حاضرًا منذ البداية، فكان هو من أسس الدولة وحكمها عبر عقود طويلة وتمدد دوره بسبب ضعف الحالة المدنية بالأساس، ومواجهة وجود جيش آخر مثّل وجوده خطرًا على وجود الدولة وهويتها وتوجهاتها، مثله تنظيم الإخوان الذى التزم منذ نشأته صيغة جيش له قائد وجنود يلتزمون السمع والطاعة، بما جلب ربما شفقة من جيش مصر على مصير هذا البلد فى غيابه بالشكل الذى أغراه بلعب هذا الدور، والذى يلعبه الآن بموجب تفويض شعبى برعاية الانتقال لا الحكم، وهذا ما كان واضحا لدى الشعب، لكنه لم يكن بنفس الوضوح لدى قيادة الجيش فى أن التفويض للمجلس العسكرى السابق والحالى أيضا لم يكن تفويضا مطلقا بحكم هذا البلد، بل تفويضا مشروطا بإصلاح خلل البنيان السياسى فى هذا البلد، الذى صارت مصائره محشورة بين جماعة لها مشروع خاص يهدد مفهوم الدولة، وجماعة مصالح بددت هى الأخرى مصالح هذه الدولة، مضت مراحل الانتقال ووصلنا إلى تلك النقطة التى وصلت بوزير الدفاع إلى سدة الحكم، وهو من تقدم فى مرحلة حاسمة من تاريخ هذا البلد، وقطع طريق جماعة مثلت خطرًا على استمرار مسيرة الدولة الوطنية، ليبدأ كما افترضنا طريقًا جديدًا لبداية جديدة لهذا البلد، بمعنى أن نقطة البداية ليست إعلان فقدان الثقة تماما فى الحياة المدنية، وتأبيد دور أكبر للجيش فى حكم هذا البلد، يأسا من قدرة المدنيين على حكم هذا البلد. يا سادة لن نعيد اختراع العجلة، الدولة المدنية الحديثة تعنى سلطة تنفيذية تحكم بتفويض مشروط من الشعب الذى يراقبها، ويختارها من خلال الديمقراطية غير المباشرة عبر برلمان منتخب، وتأخر انتخابه دون مبرر مفهوم حتى الآن، وسلطة قضائية مستقلة تحتاج إلى إصلاح، وهذه ليست دعاية إخوانية، بل دعوى خرجت من داخل الجسد القضائى ذاته، لأن ترهل أجهزة الدولة فى العقود الماضية لم يستثنِ أحدا، وصحافة مسؤولة لها حرية النقد تحت سقف الدستور والقانون وفقط. أتصور أن البداية الصحيحة التى لا يجب أن تتأخر هى فى توسيع المشاركة المدنية فى الحكم، واعتبار هذا النظام نظاما انتقاليا يكفل فرص تهيئة حياة سياسية صحيحة، تطرح بدائل للمصريين، وتتيح مشاركة واسعة لكل قادر على خدمة هذا البلد، إن محاولة تكريس الانتقال كوضع دائم لن تصنع استقرارًا، وهذا شعب لا يُخدَع وإن رزح فى الجهل والتعتيم الذى يمارسه البعض، نصيحتى لكل نظام يحكم المصريين، الصدق منجاة، دعونا نبدأ المسيرة دون تسويف أو مراوغة يرحمكم الله.