عندما تأسست مجلة «التحرير» فى أعقاب ثورة 23 يوليو عام 1952، ترأس تحريرها القائمقام أحمد حمروش، واستعان بمجموعة من الكتّاب الطليعيين واليساريين والأحرار المستقلين، وكتب البعض من هؤلاء بوضوح وصراحة وشجاعة، للدرجة التى دفعت شاعرا غنائيا كبيرا مثل مأمون الشناوى أن يكتب مقالا ينتقد فيه السياسة الجديدة. وأنتهز هذه المناسبة للتعليق على المقال البديع الذى أثنى فيه الناقد والكاتب الكبير طارق الشناوى على بابنا هذا، وأوضح أن مأمون الشناوى كان له تاريخ فى المعارضة السياسية منذ أنشأ مجلته اللافتة والمهمة «كلمة ونص» فى منتصف الأربعينيات، وكان يعاونه الصحفى صلاح عبد المجيد، وفى هذه المجلة كان الشناوى يشنّ أشكالا من الهجوم على سياسة القصر والإنجليز فى آن واحد، وبعد أن توقفت المجلة استمر الشناوى يكتب مقالات صحفية فى عدد من المجلات المستقلة، وبالأخص صحافة اليسار، مثل صحيفتى «الكاتب» التى كان يصدرها الكاتب يوسف حلمى، و«الملايين» التى كان يملكها ويرأس تحريرها الكاتب الصحفى أحمد صادق عزّام، وفى هذه الأخيرة كان الشناوى يكتب بابا دائما تحت عنوان «طلقة»، وكانت الصحيفتان تداران بواسطة اليساريين آنذاك، ولا أعرف بالضبط مدى العلاقة التى تربط بين الشناوى واليسار سوى الاتفاق حول الأهداف، ولذا كانت مقالاته التى تحتاج إلى جمعها ونشرها فى الصميم ومقلقة للسلطات. وفى الخمسينيات كان يكتب بابا يوميا فى جريدة «الجمهورية» عنوانه «لا ونعم»، ثم كتب مقالا أسبوعيا فى الصحيفة نفسها عنوانه «7 أيام»، وكان يتعرض فيه للقضايا العامة والقضايا الخاصة على السواء، ولشجاعة قلمه استعان به أحمد حمروش واستكتبه فى المجلة الفتية الجديدة، وعندما كتب مقاله فى العدد الثالث، وانتقد فيه السياسة الجديدة، لم تحتمل القيادة وسياسة الصحيفة هذه الشجاعة، فأطاحت بأحمد حمروش، وأوقفت مأمون الشناوى عن الكتابة، وجاء مكانه اليوزباشى كمال الدين الحناوى، ليكتب فى المكان الذى كان مخصصا له تحت عنوان «يجب»، وجاء مكان أحمد حمروش ليرأس تحرير المجلة صاغ أركان حرب محمود ثروت عكاشة. ولم يكن عكاشة غريبا على الحياة العامة أو الصحفية أو الثقافية أو العسكرية، وأعتقد أنه كان الرجل الأوفر حظا فى مجال الثقافة والنشر، وكانت له ترجمات مرموقة، وكان ينشر رواية مترجمة فى مجلة «قصص للجميع» عام 1951، وترجم كتابا مهمّا عن حرب العصابات عام 1950، وكان يكتب فى مجلة «الجيش المصرى» أبحاثا عسكرية ذات طابع ثقافى مرتفع، بالإضافة إلى ضلوعه فى المشاركة بقوة فى ثورة 23 يوليو، لذلك كان هو الشخص المناسب ليخلف أحمد حمروش، ويدير المجلة بوجهة نظر هى الأنسب لوجهة نظر السلطة العسكرية الجديدة، بعد سياسة تحريرية خالفت الأعراف والتقاليد الصارمة لهذه السلطة العسكرية، وتجرأت على انتقادها. ورغم التزام عكاشة بالسير على الخطى التى ترسمها السلطة الجديدة، فإنه استعان ببعض الكتّاب الأحرار، فقرأنا مقالات لفكرى أباظة ولزكريا الحجاوى وللناقد السينمائى أحمد كامل مرسى، وقرأنا قصصا لمصطفى محمود ويوسف إدريس والفنانة نعيمة وصفى، عندما كانت تكتب قصصا جميلة، واستبقى عكاشة الكاتب الصحفى عبد المنعم الصاوى، حيث إنه كان يعمل دائما وفق ما تمليه السلطات السياسية. واستمر الصاوى فترة طويلة فى المجلة رغم التغيير المتتالى لرؤساء التحرير. وكانت الافتتاحية الأولى لثروت عكاشة تحت عنوان «إرادة شعبين»، وتصدرت المقال الافتتاحى صورة كبيرة لمحمد نجيب مع أحد قيادات السودان، وفى المقال قام عكاشة بتحليل الموقف السياسى بين مصر والسودان، موضحا الظلم الذى تعرض له السودانيون، والجهود الجادة التى تسعى نحوها قيادة ثورة يوليو لحلّ كل المشكلات السياسية المفتعلة بين البلدين الشقيقين بفعل الأيدى الإنجليزية الخبيثة منذ معاهدة 1936وما قبلها وما بعدها، وأنهى مقاله ب:«لقد اتفق السودانيون والمصريون ولا سبيل إلى الخلف بينهما بإذن الله، فماذا يرى المستعمرون؟ إنهم أمام إرادة شعبين اتفقا، فأية حجة ترى يدخرونها لمواجهة هذه الإرادة؟». وسارت وتيرة المجلة على هذا النحو الوسطى، أى الاستجابة الرصينة لوجهة نظر السلطة السياسية العسكرية الصارمة. مع مرور بعض الأقلام الحرة بشكل مستتر، ولكنه لا يخدش جدران السياسة الرسمية بوضوح. وأعتقد أن مقدمات ثروت محمود عكاشة للأعداد التى مكث رئيسا لتحريرها تعدّ وثائق رسمية لتأسيس صحافة جديدة ذات روح ثورية منضبطة جديدة، ومعظم من كتبوا عن ثروت عكاشة أغفلوا هذه المرحلة الخصبة والثرية والحرجة فى حياة عكاشة وفى تاريخ ثورة يوليو نفسها، لأن ما تلا ذلك كان أكثر إثارة مما حدث، وكانت الصراعات تحاك واحدة بعد الأخرى ضد هذه السياسة التحريرية الوسطية، وذلك لأن المجلة هى لسان حال ثورة يوليو، كما اعترف بذلك خالد محيى الدين فى «الآن أتكلم»، ولكن ثروت عكاشة نفى فى مذكراته أن تكون المجلة هى لسان حال القيادة، وربما تخيل عكاشة الأمر هكذا، ولكن المطلوب كان الانصياع بشكل كامل للسلطة السياسية، ووجهة النظر الأخيرة هذه هى التى انتصرت، واتضح ذلك عندما احتفلت المجلة بمرور عام على قيام ثورة يوليو، وصدر العدد 23 وكان يحمل مفاجآت مذهلة، إذ نشر عكاشة الخطة المعدة بشكل كامل لثورة يوليو بخط عبد الحكيم عامر والتعديلات التى قام بها آخرون، وكشف عن الأدوار الحقيقية التى أدّاها الضباط الثوريون، وربما لم يشغل هؤلاء الضباط مواقع مرموقة فى ما بعد قيام الثورة بحجم جهودهم الجبارة. كما جاء فى هذه الخطة المنشورة ترتيب التشكيلات العسكرية للقيام بمهامها، وهذا لم يعجب القيادة، خصوصا صلاح سالم أحد صقور ثورة يوليو، لذلك تمت الإطاحة بعكاشة بعد هذا العدد، وإرساله ليعمل ملحقا عسكريا لمصر فى باريس، ويتولى بعده القائمقام أنور السادات الإشراف على المجلة فى مرحلتها الثالثة الجديدة، ويشرب ثروت عكاشة من الكأس نفسها التى شرب منها سلفه أحمد حمروش، ولكنه يستثمر المرحلة الباريسية بكامل طاقاتها الثقافية والفنية والتعليمية، لينهل منها، ويعود بعد فترة ليصبح دوره المعروف فى قيادة وزارة الثقافة المصرية لسنوات عديدة.