لا يستطيع أي قارئ لأحداث ثورة 23 يوليو أن ينتزع المواكبة الثقافية التي تآزرت مع الحدث الثوري التاريخي ،ولم يكن الذين قاموا بالثورة وهم من رجال القوات المسلحة ، مجرد ضباط وضعوا خطة لانقلاب عسكري ، يستولون به علي السلطة وفقط ، ولم تكن خلفياتهم الثقافية تنتمي لثقافة الثكنات وصفا وانتباه فقط ، بل كان منهم المترجم ، وكاتب القصة ، والمؤرخ ،والمثقف السياسي ، وعلي سبيل المثال كان ثروت محمود ،الذي اشتهر فيما بعد بثروت عكاشة كانت له ترجمات وكتابات عديدة في الصحف والدوريات العسكرية تنم عن ثقافة واسعة ، حتي صلاح نصر كان له نشاط في الكتابة والترجمة قبل عام 1952 ، وكان من المعروفين أيضا في مجال التأليف والترجمة الراحل المؤرخ أحمد حمروش ،والذي كان دوره بعد قيام الثورة مباشرة ، هو استقطاب الكتاب والأدباء لصف الثورة ومؤازرتها ،وهذا يحدث مع أي حدث ثوري أو عملاق تمر به البلاد ، وهو تعيين مجموعة رجال يعملون علي عملية الاستقطاب الواسعة التي تضمن بها قدرا كبيرا من المساندة ، وإن لم يلعب حمروش هذا الدور وحده ،بل اختطفه منه ثروت عكاشة منذ البداية ، فعندما فكر رجال الثورة تأسيس مجلة لتكون ناطقة ولسان حال للثورة أنشأت مجلة التحرير ، وترأس تحريرها الضابط أحمد حمروش ، واستكتب مجموعة من الكتاب اليساريين في ذلك الوقت ، مثل عبدالرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ ويوسف ادريس ومأمون الشناوي وغيرهم ، وبالفعل كانت المجلة مواكبة بشكل بارز الحدث العملاق ، وقامت المجلة بالتخديم علي الحدث بشكل كبير ، وربما استشعرت السلطة الجديدة في ذلك الوقت أن أحمد حمروش أراد أن يستثمر الوضع الجديد للتعبير عن أشواق سياسية خاصة بعيدا عن بوصلتها ،ونلاحظ أن الأستاذ حمروش بالفعل كان يكتب بانطلاق لا يليق بعسكري ، فعلي سبيل المثال كتب في العدد الثالث الصادر في 15 أكتوبر عام 1952 يقول "والعهد الفاسد المنصرم كان يفتح أبواب السجون والمعتقلات للأحرار والوطنيين ويغلقها دون التجار الخونة ، وعلينا الآن أن نصحح الأوضاع فقد أفرجنا عن بعض الأحرار وأصبح بعضهم وزراء وعلينا أن نفتح السجون دون رحمة أو شفقة لهؤلاء الذين انتفت من قلوبهم معاني الرحمة والانسانية " وهذا الكلام من الممكن أن يؤدي إلي معاني بعيدة عن مرامي السلطة الجديدة ،ويكتب كامل الشناوي مقالا حادا في العدد الثاني الصادر في أكتوبر من العام نفسه تحت عنوان "متي يعود الجيش إلي ثكناته " ، والعنوان فقط يثير حفيظة الضباط ، رغم أن الشناوي يكتب بذكاء وبعض هدوء ، إلا أنه في نهاية المقال يصرخ قائلا : "لقد طال انتظار الجيش خارج الثكنات .. وكان يمكن أن يعود إلي ثكناته منذاليوم الأول لو أننا عرفنا أهدافه ..وما أبسط هذه الاهداف !" ويستطرد " انها ليست إلا تطهير مرافقنا من الفساد بلا تفرقة ولا تمييز وتحرير نفوسنا من الحقد والخوف والخنوع ... فهل كثير " علينا أن نعيد الجيش إلي ثكناته ؟ هل كثير علينا أن نحارب الفساد؟ هل كثير علينا ألا نحقد ولا نخنع ولا نخاف؟ " وبالطبع كانت هذه اللهجة غير مناسبة للحظة من وجهة نظر الضباط ، وكيف يتساءل واحد من الكتاب عن سرعة عودة الجيش الي ثكناته ، ولم يكن له في إدارة شئون البلادسوي أقل من ثلاثة أشهر ، لذلك استعدت السلطة رجلها أحمد حمروش ، وأتت برجل آخر وهو الضابط ثروت محمود عكاشة ، وذلك في العدد الرابع مباشرة ،وكأنه كان جاهزا ، وجاء ذكر الواقعة في بوكس لايليق برئيس تحرير سابق ، يقول البوكس :" اقتضي التحاق الزميل اليوزباشي أحمد حمروش بكلية أركان حرب ، ان حرمت مجلة التحرير من جهود رئيس تحريرها السابق ، بعد أصبح الجمع بين رئاسة التحرير والدراسة العليا غير ميسر والتحرير وهي تسجل لأحمد حمروش جهوده منذ ولادتها في 17 سبتمبر الماضي وقدرته ووطنيته تتمني له أن يلازمه التوفيق في دراسته وسيوالي أحمد حمروش كتاباته للتحرير بقدر مايتسع له وقته " ومن الواضح أن الكواليس كان مكدسا بأحداث أخري مما أفصحت عنه المذكرات التي كتبها الثنائي حمروش وعكاشة فيما بعد ،ومع أنهما كانا الأكثر حضورا في العمل الثقافي العام في تاريخ المرحلة الناصرية ، إلا أنهما كانا قطبين متافرين ومتنازعين حول مدي النفوذ الذي يمارسه كل منهما ، وكان حمروش ينظر لعكاشة وكأنه هو الذي خطف منه دوره ومهماته ، ولكن الإثنين كان لهما تأثير قوي جدا في مصير الثقافة المصرية علي مدي سنوات الخمسينيات والستينيات ، وكان كل من حولهما ينفذون ما اتخذاه من قرارات ، فقط نستثن رجلا واحدا وهو المهندس الأول والمسئول عن أوضاع كثيرة حدثت في أعقاب الثورة ،ولم يقتصر دوره علي المشاركة في أول وزارة بعد الثورة ، لكنه كان شريكا فعليا في تسمية الوزراء مع السيد علي ماهر ، ورغم أن فتحي رضوان الذي جئ به من سجن الأجانب لكي يتقلد وزارة الإرشاد القومي ،كان من كبار المغضوبين عليه في النظام الملكي ، إلا أنه أصبح من كبار المسئولين في نظام يوليو ،وهو يسرد حكايته مع يوليو في أكثر من كتاب ، ويضعنا في تفاصيل تكاد تكون مجهولة تماما ، والذي يراجع مجلات وصحف تلك الفترة سيلاحظ أن فتحي رضوان كان المايسترو الفعلي خلف إنشاء ونهوض روح ثقافة يوليو ،التي تراوحت بين ثقافة الحشد والاستقطاب ،وشارك عددكبير من المثقفين اليساريين مثل الدكتور علي الراعي والدكتور محمد مندور وأحمد عباس صالح وغيرهم ، وكان هؤلاء موزعين علي الصحف والمجلات ، حتي كانت جريدة المساء التي لمت هذاالشمل اليساري المتناثر ، والتي تأسست عام 1956 ، وترأس تحريرها الأستاذ خالد محي الدين مد الله في عمره ، ولعبت جريدة المساء دورا كبيرا في مؤازرة الثورة وقيادتها ، وفي ذات الوقت أمدت الحياة السياسية والثقافية والفكرية بزخم جديد علي الحياة المصرية ،واستقطبت كتابا مثل أنور عبدالملك وعبدالعظيم أنيس ومحمدعودة فتحي خليل وفيليب جلاب وعلي الشلقاني وعبدالفتاح الجمل ويعد سعد الدالي ولطفي الخولي وعايدة ثابت وفتحي عبدالفتاح ، ونشرت نصوصا فكرية وأدبية ونقدية ، شكلت رافدا مهما وطليعيا ، قبل أن يغدر بكل هؤلاء الكتاب في مطلع في مطلع عام 1959 بعد خطاب "الزعيم" جمال عبدالناصر في بور سعيد احتفالا بعيد النصر في 23 ديسمبر 1958 ، وكتب الصحفي محمد حسنين هيكل مقاله الشهير-آنذاك- تحت عنوان "علقوا علي أفواههم أقفالا"، وغاب هذا الرافد خمس سنوات ليعود متعاونا مرة اخري مع السلطة الناصرية بقوة عام 1964 وكان من الإنجازات التي دشنت لثقافة متنوعة في ذلك الوقت إنشاء المجلس الاعلي لرعاية الفنون والآداب ، والذي لعب دورا كبيرا في إنشائه هو الكاتب والروائي يوسف السباعي ،الذي لعب أدوارا ثقافية متعددة بصفتيه من أهل الخبرة والثقة في ذات الوقت ، وأظن أن معركة الواقعية في النقد والتي تأسست من خلالها المدرسة النقدية في الواقعية تنسب لهذه الفترة بجدارة ، عندما صدر كتاب "في الثقافة المصرية " للكاتبين محمود أمين العالم وعبدج العظيم أنيس ، ورغم أن الذي يقرأ الكتاب الآن لن يستشعر المدي التطوري والإنقلابي الذي حدث في الثقافة المصرية آنذاك مقارنة باللحظة الحالية ، إلا أن مراجعة هذه اللحظة سيلاحظ حجم الحراك الذي أحدثه هذا الكتاب الذي اعتبره نقاد كثيرون أنه مانفستو المثقفين اليساريين في ذلك الوقت ، وهذا يحتاج إلي تامل ومراجعة دؤوبتين،والبحث في كافة مصادر هذا الزمان من مجلات وصحف وإذاعة ومنتديات، وعلي مستوي النشر لم يقتصر الأمر علي دور نشر رسمية وحكومية ، لكن نشأت دور نش يسارية ووظنية لعبت دورا مهما في نشر الثقافة الوطنية واليسارية ، مثل دار الفكر ودار النديم ودار الديمقراطية ودار ايزيس وعند بوادر انتهاء شهر العسل المؤقت بين السلطة واليسار تم إغلاق كل هذه الدور عام 1958 ، قبل أن يلتحق كل أصحاب هذه الدور بالسجون والمعتقلات لن ننسي أن الصحافة الثقافية قد شهدت رواجا كبيرا في حقبة الخمسينيات والستينيات ، وكان من المعروف أن إغلاق مجلتي الرسالة لأحمد حسن الزيات والثقافة للدكتور أحمد أمين ، كانا بمثابة نهاية مرحلة ، وبدايات مرحلة أخري ، لذلك جاءت مجلة "الرسالة الجديدة " بديلا جيدا لمنا كان قبل يوليو ، وشهدت المجلة كتابات مهمة لمعظم التيارات الجديدة ، رغم أن الذي كان الضابطان يديرها أنور السادات ويوسف السباعي ، لكن لا أحد ينكر أن هذه المجلة قدمت ثقافة أدبية وفكرية متميزة ومواكبة لما كان يحدث في الساحة الثقافية ، وبالطبع كانت هناك مطبوعات ثقافية أخري متنوعة تقدما أشكالا من المشهد الثقافي مثل مجلة "الأدب" لأمين الخولي ، ومجلة "كتابات مصرية " لمحمود امين العالم وعادل ثلبت ، وغيرها من مطبوعات ثقافية اخري ويأتي عهد الستينيات ، وكانت المعتقلات قد وارت العديد من المثقفين مثل ألفريد فرج ولويس عوض ومحمود أمين العالم وغيرهم ، لكن عصر الستينيات رغم ذلك شهد رواجا ثقافيا علي مستوي الدوريات كبيرا ، وكانت المجلة الأبرز في بدايات هذا العقد هي مجلة الكاتب ، والتي ترأس تحريرها في البداية الأستاذ أحمد حمروش ، وقد صدر العدد الاول منها في ابريل عام 1961 ، وقدمت كتابا وشعراء شبابا كثيرين ، مثل بهاء طاهر ويحيي الطاهر عبدالله وأمل دنقل وغيرهم ، وظلت المجلة نافذة ثقافية مهمة حتي أغلقها أنور السادات في السبعينيات بعد معركة شرسة سجل وقائعها صلاح عيسي في كتابه ط مثقفون وعسكر" وكانت إلي جانب هذه المجلة مجلات الشعر والقصة وتراث الانسانية والمجلة والفكر المعاصر ، وسلسلة أعلام العرب والالف كتاب ، وغيرها من إمدادات مهولة تظل حتي الآن مرجعا هاما وأصبلا في الثقافة المصرية هذا بالطبع غير الإنشاءات العملاقة التي تم تدشينها وتطويرها مثل مؤسسة السينما والمسرح القومي وأكاديمية الفنون والثقافة الجماهيرية وهيئة الكتاب ، وشارك في عمليات التطوير والإنشاء فر متنوع من المثقفين والكتاب المصريين الأجلاء الذين لا ننسي أدوارهم التي مازالت تؤثر فينا حتي الآن ، وهذا لا يعني بالطبع أن الحياة كانت وردية تماما، لكنني أردت أن أوضح هوامش ضرورية ربما تكون مفيدة لإضاءة هذا المتن المعقد الذي يحاول البعض تدميره الآن ، أما ماشاب الثقافة من عوائق في ذلك الزمان فكانت كثيرة ، وسنؤجل ذلك لوقت آخر ، فلكل حادثة حديث