«الحفار، ودموع فى عيون وقحة، والصعود إلى الهاوية، وزقاق السيد البلطى، ورأفت الهجان، وسامية فهمى»، وغيرها من روايات تحوَّلت إلى أشكال درامية متعددة، مثل السينما والتليفزيون، كلها كتبت البقاء والخلود للكاتب العظيم صالح مرسى، الذى كان يعمل بحّارًا بسيطًا فى السفن، هذا البحار الذى كان يقضى مع البحر ساعات وأيامًا طويلة، يعيش بين أمواجه الصاخبة، وجنونه الذى يزمجر فيطيح بكل أحلام المرء، هذا البحر الذى يتخيَّل المرء أنه يهيمن عليه بخبرته، فيكتشف أنه هو القائد والمهيمن والمعلم، وليس فى البحر إلا جنونه، ولكن إذا كنت بحّارًا فهناك لغة خاصة تنشأ وتولد بينك وبين هذا الجنون، وكان صالح مرسى أحد هؤلاء الذين عقدوا علاقة مع هذا الجنون، وأبدعوا حوارًا معه، وكانت له رفقة طيبة تحب الأدب، وأفرادها ناوشوا وناوشتهم فكرة الكتابة والقراءة، وكناس مغامرين بدؤوا يفعلون ذلك فعلًا، حسن الدرينى وعلاء الدين وحسن الحداد، كان الثلاثة ورابعهم صالح مرسى يعقدون جلسات أدبية لمناقشة حصيلة قراءاتهم فى الفلسفة وعلم النفس والتاريخ، وكان صالح مرسى الذى تدرّب منذ طفولته وصباه على القراءة بدرجة كبيرة، عندما كان صبيًّا فى العاشرة وهو يشاهد أباه فى مدينة طنطا، يقرأ كتابًا ضخمًا تعدَّت صفحاته المئتين، وذا غلاف مقوى، الوالد غارق فى القراءة عابس الوجه أحيانًا -كما يكتب مرسى فى سيرته الذاتية الفاتنة- منفرج الأسارير فى أحيان أخرى، وبعد بحث وتنقيب وأسئلة عديدة، اكتشف الصبى أن ذلك الكتاب «النظرات والعبرات» لمصطفى لطفى المنفلوطى، ثم تعرَّف بعد ذلك على «ماجدولين» و«فى سبيل التاج»، وكلها كانت كتبًا تخلب اللب، وتجذب الروح، بعدها تعرَّف الفتى على روايات الجيب، ليكتشف أرسين لوبين الذى كان إذا انتصر فى معركة -دخَّن فى لذة- سيجارة مصرية فاخرة، وشرلوك هولمز الذى لا تستعصى عليه جريمة، وهكذا تدرَّج مرسى فى القراءة، وفى الثامنة عشرة من عمره بدأ الكتابة، ثم التحق بالبحرية، والتحق بالبحر حتى التقى برفاقه هؤلاء، وأنشؤوا ما يشبه الورشة، وكان بعضهم يراسل الصحف والمجلات، وكانت المجلات تنشر لحسن الدرينى، خصوصًا مجلة «القصة» التى كان يرأس تحريرها الكاتب أحمد رشدى صالح، وذلك فى مطلع الخمسينيات من القرن الماضى، وبدأ الأربعة يعرفون الطريق إلى كوكبة من الكتّاب الذين أصبحوا نجومًا فى ذلك الوقت، مثل محمد عبد الحليم عبد الله ومحمود تيمور ويوسف السباعى وإحسان عبد القدوس الذى فاجأ الناس بروايته الأولى «النظارة السوداء»، رغم أنه كان غارقًا فى الكتابة السياسية، ثم تعرَّفوا على عبد الرحمن الخميسى وعبد الرحمن الشرقاوى، اللذين كانا يكتبان القصة والرواية والشعر فى نفس واحد، وكانوا قد مرّوا على روايات نجيب محفوظ الاجتماعية مرورًا عابرًا، ولكنهم توقَّفوا أمام روايتيه «رادوبيس» و«كفاح طيبة» توقفًا كبيرًا، وراحوا يناقشون مواقف أبطال الرواية بشكل تفصيلى، وقد انشغلوا فى ما بعد بكتابات أخرى، حتى فاجأت صالح مرسى آلام المعدة الرهيبة فى منتصف الخمسينيات، وأجرى عملية جراحية لاستئصال بعض أجزائها تفاديًا لانفجار وشيك، وبعد إجراء العملية الناجحة، ودخول صالح فى فترة نقاهة قصيرة، أهداه صديقه حسن الدرينى رواية «بداية ونهاية» فى طبعتها الأنيقة التى صدرت عام 1952 عن سلسلة الكتاب الذهبى، وراح صالح يقرأ بنهم هذه الرواية التى فتنته وأخذته أخذًا شديدًا، وتوقّف كثيرًا أمام شخصيات الإخوة الأربعة حسن وحسين وحسنين ونفيسة، الذين ولدوا فى بيت واحد، ولكنهم كانوا شخصيات شديدة الاختلاف، رغم أن الأب واحد، والأم واحدة، ولم تشغل مرسى الأفكار المطروحة فى الرواية فقط، بل الخلطة السحرية التى كان يكتب بها نجيب محفوظ، وهذا دعاه ليقرأ وينغمس فى كل كتابات محفوظ فى ما بعد، ويحلل الدنيا ويفسِّرها على الطريقة المحفوظية، وأصبح محفوظ هو الكاتب الأكثر جذبًا له آنذاك، وعندما بدأ يكتب مرسى قصته العظيمة «زقاق السيد البلطى» كان نجيب محفوظ يطل عليه من كل جانب، وأصبح نجيب محفوظ دافعًا قويًّا ليكتب مرسى هذه القصة الفاتنة، وراح صالح يتنفَّس جو الأدب فى مصر بقوة، وبدأت تطلعاته ترسخ وتتطور ويكتب عن تلك الفترة، قائلًا «كانت الحياة الأدبية فى القاهرة تبدو وكأنها مغناطيس يجذبنى إليه بقوة، أصبحت مع الأيام لا تقاوم، كنت أعيش فى الإسكندرية بلا حياة، بينما حياتى الحقيقية كانت هناك، على صفحات المجلات والكتب والقصة والرواية، وكان طبيعيًّا أن يستقر رأيى على أن أترك العمل فى البحر.. كنت قد التحقت بكلية الآداب قسم الفلسفة وعلم النفس فى جامعة الإسكندرية، فازداد انفصالى عن حياتى المعيشية.. حتى إذا شارف عام 1955 على الانتهاء، وكان ذلك بالتحديد فى يوم 30 سبتمبر، وكنت أودّع حياتى فى البحر إلى غير رجعة!!». ولم يمر زمن كبير حتى التقى مرسى بنجيب محفوظ شخصيًّا، وكانت الجلسة المحفوظية التى ذهب إليها صالح، تضم يحيى حقى، ولاحظ مرسى أن حقى كان يداعب نجيب محفوظ، وكان نجيب يستجيب لأريحية حقى بأدب، ويصف صالح مرسى هذا الأدب بأنه ليس مصطنعًا على الإطلاق، بل أدب الرجل الذى يعرف قدر نفسه، ومنذ ذلك الوقت تبدأ حياة مرسى الأدبية العظيمة، والتى سردها فى فصول ممتعة جدًّا فى كتابه «هم وأنا»، ولكن الذى يستدعى هذه السطور السابقة، أن كاتبنا الراحل صالح مرسى يستدعى فى قصة قصيرة له نُشرت فى العدد الصادر من مجلة «صباح الخير» بتاريخ 31 أكتوبر عام 1968 عنوانها: «كيف يموت الشىء الجميل»، بعضًا من زمن البحّارة القديم، دون أن يشير إلى أن ذلك زمن البحر، ولكنه يؤثر التعميم لكى نخلص لرسالة فى غاية الدقة، بأن الشىء الجميل والذى يحدث فى حياة المرء لا يمكن أن يموت.