كانت سورة الكهف، أول سورة طويلة أحفظها من القرآن الكريم، بعد الفاتحة وقصار السور، كنت أسمعها مرتين بانتظام كل جمعة، مرة من أسطوانة قديمة يحتفظ بها أبى خارج درج الجرامافون الخشبى الكبير، ومرة بصوت سيدنا الشيخ محمد. كان سيدنا يدفع الباب بيده كل صباح ويجلس على كنبة فى مدخل البيت يقرأ ما تيسر من القرآن، ثم يخرج ليكمل «الرواتب» فى بيوت أخرى، لكن الأمر يختلف فى يوم الجمعة، حيث يأتى مبكرا، فيفطر ويشرب اليانسون بالعسل، ويجلس فى مكانه ليقرأ سورة الكهف كاملة، ويختمها بدعاء طويل، نردده وراءه ونحن أطفال، بينما يقول الكبار: آمين. فى ذلك العمر الصغير كانت تستهوينى معجزة أهل الكهف أنفسهم.. عددهم بالضبط، كم لبثوا من السنين، وقصة كلبهم، كان الخيال الذى ترسمه المعجزة يستولى على تفكيرى ويملأ رأسى بالأسئلة الطفولية، ولما كبرت ودخلت المرحلة الثانوية، كنت كثير النقاش مع زملائى، وأتمسك بأن رأيى دائما صحيح، لأننى قرأته فى كتاب كذا، أو سمعته فى الراديو من الشيخ فلان، وحدث فى نهاية الأسبوع الدراسى أننى دخلت فى نقاش مع صديق يكبرنى (هو الأستاذ رضا الشحات، مهندس كيميائى ومثقف نادر، التحق بعد ذلك بمعهد الدعاة وصار خطيبا وداعية)، تجادلنا كثيرا، وكل منا يتمسك برأيه حتى انتهت المناقشة ببعض الجفاء. صباح اليوم التالى (الجمعة) استيقظت على صوت الشيخ محمد وهو يقرأ: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا». لا أعرف حتى الآن، لماذا انهمرت الدموع من عينى بغزارة، وخفت بشدة أن أكون من هؤلاء، وظلت هذه الآية علامة تحذير ساطعة من غرور العلم، والإحساس بامتلاك اليقين، فالإنسان خُلق ضعيفًا، جهولًا، ما أوتى من العلم إلا قليلا، ولا ينبغى له أن يتوهم غير ذلك، ولا يجب أن يكابر، ويخسر صديقا أو زميلا فى نقاش يحتمل وجهات النظر، فقد تتصور أنك أفضل من هذا أو ذاك، وهو خير منك عند الله، وعند عباد آخرين. ظل هذا المعنى يشغلنى، وأستعيذ بالله أن أكون من الضالين الأخسرين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، حتى قرأت قصة أبى بن شريق الثقفى الملقب بالأخنس، وهو رجل من ثقيف اختلف المؤرخون فى إسلامه، واتفقوا على أنه كان حسن المنظر، عذب اللسان، أخاذًا فى حديثه، وقيل إنه أعلن إسلامه أمام الرسول، وأبلى بلاء حسنا بالقول الطيب، ثم اختفى من المدينة، وقيل إنه ارتد وحرق زرعًا وقتل نوقًا لجماعات من المسلمين، فنزلت فيه الآية: «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ». ...والله لا يحب الفساد. الله.. ما أروع التعبير، وما أحوجنا إليه، ولعل الله يمد فى عمرى حتى أكتب مقال الجمعة المقبلة عن الفساد والمفسدين حسب كلام الله، ولا يفوتنى أن أنهى مقال اليوم بهذه الآيات من سورة البقرة التى تهز كيانى، وترجف قلبى من فرط الخشية والخشوع: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ». اللهم لا تجعلنا من السفهاء الذين يخدعون أنفسهم.. آمين.