عندما تولى الضابط أحمد حمروش قيادة المسرح المصرى، راح يتعامل مع الفن والفنانين بكل عنف، وقرر أن يتخلص من كبار السن فى المسرح القومى، ويقلل من معاش هذا، ومعاش تلك، رغم أن بعضهم كان قد قدّم تاريخًا باهرًا على خشبة المسرح المصرى، واشتكى الفنانون بالفعل من هذا التعسف الذى لحق بهم، وكانت الأقدام الثقيلة تدهس الخبرات والطاقات والتاريخ، تحت شعارات تخفيض التكاليف، وضمن هذه الحملة التى تعرض لها الفنانون. كانت الفنانة العظيمة زينب صدقى، إذ نالها هذا السيف الظالم الذى شهره الضابط أحمد حمروش، وسلطه على رقبتها، وقطع عنها المعاش، لمجرد أنها قد تجاوزت الستين من عمرها، واعتبرها لا تصلح للوقوف على خشبة المسرح، وزينب صدقى هى الفنانة العظيمة التى ولدت عام 1895، وكانت لها أصول أرستقراطية تركية، وعشقت المسرح بجنون، وبدأت التمثيل عام 1917، وقامت بأدوار لافتة فى مسرحيات أمير الشعراء أحمد شوقى ومنها مسرحية «مجنون ليلى» و«كليوباترا» وقامت بأدوار عديدة فى أفلام البداية فى مصر، ونالت جائزة المسرح فى سنوات تمثيلها الأولى. ورغم هذا التاريخ المشرف والراقى، والذى لا تكفى هذه السطور لرصده، فإن سيف مدير الفرقة المصرية لم يع ولم يحترم تاريخ هذه الفنانة، وكذلك لم يحترم شيخوختها، وهنا كتب الراحل مصطفى أمين مقالًا بلهجة حادة، ونشر المقال فى صدر الصفحة الأولى من جريدة «أخبار اليوم» الصادرة فى 19 أكتوبر 1957، وكان عنوانه «ادفع جنيها ثمن تذكرة لرواية لن تحضرها»، وبدأه قائلا: «حكم مدير الفرقة المصرية الحكومية بإعدام زينب صدقى! قرر إعدامها جوعًا! أمر بحرمانها من معاشها الذى تتقاضاه وهو 23 جنيهًا فى الشهر، إن زينب صدقى اتصلت ب«أخبار اليوم» وقالت: عندما أموت سيضعون لى لوحة فى الأوبرا كما يفعلون مع أبطال المسرح، إن هذه اللوحة تتكلف خمسمئة جنيه! لا أريد اللوحة! وفّروا ثمن اليافطة وأعطونى ثمنها لآكل». هذا الكلام الذى يصدر من فنانة كبيرة مثل زينب صدقى، ظهرت فى أفلام عديدة مثل «ست البيت» و«فتاة من فلسطين»، و«أولادى والنائب العام» و«الأحدب» وغيرها من أفلام كثيرة، ترك أثرًا كبيرًا عند مصطفى أمين، وانبرى مدافعًا عن الفن والفنانة أمام هذا التعسف، واستطرد كاتبا: «وكانت الممثلة العظيمة التى ظلت نجمة المسرح المصرى 35 عامًا تتكلم كأنها تبكى! كانت تقول: يا بخت سيد درويش ونجيب الريحانى وعزيز عيد! لو أنهم عاشوا إلى اليوم لفصلهم سى حمروش وحرمهم من المعاش لأنهم عواجيز». وراح مصطفى أمين يتحدث عن تاريخ زينب صدقى، واسمها الحقيقى مرفت عثمان صدقى، التى كان اسمها يتردد على كل لسان، والتى أسعدت الملايين وأبكتهم فى أدوارها الخالدة، وكانت هذه الأدوار يتحدث بها الفنانون والكتّاب، وكانت تسمى آنذاك «اللادى زينب صدقى»، لأنها كانت تعيش كما يعيش الأثرياء، ولكنها كانت تحب الفقراء وتنتصر لهم، وقد وهبت حياتها ونفسها وتاريخها للفن العظيم، ولم تتزوج سوى بضعة أشهر، وظلت على مدى حياتها المديدة غير متزوجة، وتبنت طفلة ظلت معها حتى رحيلها عام 1993 عن عمر وصل إلى 98 عامًا، وفى إحدى المسرحيات سقطت على خشبة المسرح، وانكسرت قدمها وأصبحت عاجزة عن النشاط الفنى، ومن أجل هذا أحيلت على المعاش، ويكتب مصطفى أمين: «حتى جاء (حمروش) وأمر بالحكم بإعدامها جوعًا وحرمانًا من معاشها!»، وبدلا من الشكوى إلى الحكومة، ومنها فى الوقت نفسه، لجأ أمين إلى جمهور الفنانة العظيمة وطالبه بأن يدفع جنيهًا واحدًا لها، لكى تتغلب على هذه المحنة البشعة، وكتب: «إن (أخبار اليوم) تدعوك إلى أن تدفع هذا الجنيه، إنك تمنع تنفيذ حكم الإعدام الذى أصدره رجل لا يعرف -وهو يمسك قلمه ويوقع هذا القرار- أنه كان يمسك خنجرًا ويغمده فى صدر ممثلة من أعظم ممثلات مصر، وفنانة من أكبر فنانات الشرق العربى، وإنسانة لا تعرف الحقد ولا المرارة ولا الكراهية ولا الغيرة ولا الصغار!»، كانت الكلمات قاسية بحجم قسوة القرار، ويشعر القارئ لكلمات مصطفى أمين أن هناك مسكوتا عنه، أو خلفيات غامضة تجاه إدارة حمروش الضابط للفن والفنانين. وبعد نشر هذا المقال الذى يشبه البيان، ثارت حمية المصريين، وفى خلال 24 ساعة جمعت «أخبار اليوم» ما يكفى الفنانة لمدة عامين، هذا وقد كانت الحملة ما زالت فى بدايتها، وكان المتبرعون لا يرسلون تبرعاتهم فقط، بل كانوا يرسلون رسائلهم التى تبدى تعاطفا شديدًا مع الفنانة زينب صدقى، ذاكرين أثرها وتاريخها بكل خير، وكان بعض نجوم الفن كذلك قد أرسلوا تبرعاتهم ورسائلهم المتدفقة حبًّا وتقديرًا للفنانة، ومن هؤلاء الفنان فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وصباح وفاتن حمامة التى كتبت رسالة تقول فيها: «قرأت بقلبى رسالتك، واسمح لى أن أشترى مئة تذكرة لمئة حفلة من الحفلات التى أشهدها، وقصة زينب صدقى هى قصة كل فنانة، فإن فترة لمعان الفنان لا تطول، ولهذا يجب أن يستعد الفنان لهذا اليوم الحزين، يوم تنطفئ الأنوار، ويسدل الستار، ولهذا فإننى أرثى للذين يحسدون الفنان الذى يوفر بعض نتيجة عرقه ودمه وأعصابه ليستعد لهذا اليوم الكئيب»، وفى صباح اليوم ذهب على أمين إلى وزير الإرشاد فتحى رضوان ليعرف رأيه وموقفه فى هذه القضية، فأبلغه الوزير بأنه أوقف صرف المعاش، وكان مضطرًّا إلى ذلك اضطرارًا، لما هدد به ديوان المحاسبات بمحاكمة الموظف بوزارة الإرشاد الذى يصرف لزينب صدقى المعاش!! وهكذا تتكشف المساخر واحدة بعد الأخرى، وكذلك نشرت الصحيفة فى ذلك اليوم رسالة طويلة إلى أحمد حمروش، لا تقل مأساوية عن القرار ذاته، بل يكشف عن تعسف شديد، وبيروقراطية مقيتة، فى أروقة الحكومة التى لا تعرف للفن ولا للفنانين -أحيانا- أى تقدير.