من الأحداث الثقافية السعيدة فى هذه الأيام، صدور الأعمال الأدبية الكاملة للكاتب والأديب والصحفى والسيناريست صبرى موسى، وأعتقد أن الجيل الذى ينتمى إليه موسى، كان يتميز بصفة الشمول، فمثلا صلاح جاهين كان رساما وشاعرا وكاتبا للسيناريو وللمسرح، وممثلا، وكذلك كان صحفيا ورئيسا للتحرير، وفتحى غانم -وإن كان أكبر بسنوات قليلة- كان قاصا وروائيا وصحفيا ورئيسا للتحرير ومحللا سياسيا، وصفة هذه لحقت بكثيرين، خصوصا بفريق الكتاب والفنانين الذين التحقوا تباعا بمجلة «صباح الخير»، أو مدرسة «صباح الخير»، التى كان يرعاها رئيس تحريرها الكاتب الصحفى الكبير أحمد بهاء الدين، ومعظم كتّاب وصحفىى «صباح الخير» خرجوا من معطف أحمد بهاء الدين ومدرسته الصحفية والفنية والسياسية، وكان صبرى موسى واحدًا من هؤلاء الذين مارسوا العمل الصحفى منذ بدايات مجلة «صباح الخير»، وإن كان قد نشر بعض نصوصه فى مجلة «روزاليوسف»، أى المؤسسة التى أصدرت «صباح الخير» ذاتها، وكان ينشر نصوصه الأخرى فى مجلات «التحرير» و«قصتى» و«القصة» و«الرسالة الجديدة» و«قصص للجميع» وغيرها من مجلات وصحف، حتى جاءت «صباح الخير» لتحتكر كل ما يكتب، وكان فى مطلع عقد الخمسينيات قبل بلوغه العشرين من عمره -وهو مواليد عام 1932- قد ظهر اسمه بكثافة فى بريد القراء فى مجلتى «القصة» و«قصص للجميع»، وكانت هاتان المجلتان تردان عليه، وتنشران له بعضا من إبداعاته، وعندما صدرت مجلة «الرسالة الجديدة» نشرت بعضا من قصصه، وكانت قصته «امرأة بأقل التكاليف»، التى لم يضمنها أيا من مجموعاته القصصية لافتة للنظر، وكذلك نشر قصيدة نثرية نشرها عام 1954 فى مجلة «الرسالة الجديدة»، ونشر عددا كبيرا من إبداعاته القصصية فى تلك الفترة الأولى من حياته، وعندما نشر مجموعته الأولى «القميص» التى صدرت طبعتها الأولى عام 1958 عن دار الناشر العربى، انتقى من كل هذه القصص ما لا يزيد على نصف ما نشر، وبقىت هذه القصص الأولى شاردة لم يضمها كتاب حتى الآن، وربما يكون هاجس الحيطة والريبة والحرص على نشر أعمال متميزة هو الذى يطارد المبدعين فى أولى خطواتهم، ويدفعهم إلى حذف كثير من هذه اللبنات الأولى فى مشاريعهم الإبداعية، لذلك صدرت المجموعة الأولى لصبرى موسى باحتفاء ملحوظ، إذ شارك فى إخراجها الفنانون يوسف فرنسيس وحسن حاكم وصلاح جاهين وإيهاب شاكر وبهجت عثمان وإسماعيل طه وجمال كامل وزهدى، أما الغلاف فكان للعظيم حجازى رسام الكاريكاتير، وكان كل هؤلاء قد وضعوا رسومات خاصة لقصص المجموعة، كما كتب مقدمة المجموعة الكاتب والقاص الطليعى بدر نشأت، وكان متحمسًا بشدة للكاتب وقصصه، إذ وصف القصص بأنها: «بسيطة كالنفوس فى بلادنا.. شريفة كالكادحين من أجل قوت العيال.. إنها تعكس الحياة فى حركتها وهى تتجدد دائما، وتتدفق دائما.. وتمتد بالبقاء إلى كل شىء، حتى إلى الشوك»، ويقول عن الكاتب: «إنه ينشد فى الناس دينا آخر.. دين الإنسانية الكبير.. دين المشاركة، الذى يوحد كل البشر»، ويتحدث عن أبطال القصص قائلًا: «الكادحون الذين يشقون ويعرقون، يعرفون أن الدنيا ليست غيبا وقدرا.. لقد علمهم الكدح والدأب.. أن الحياة هى إرادة الإنسان»، ومنذ أن أصدر صبرى موسى هذه المجموعة انطلق بشكل مذهل فى الكتابة الإبداعية والصحفية، فأصدر كتبه السردية التى صارت نموذجا رفيع المستوى، ومن عيون الأدب المصرى والعربى والإنسانى المعاصر، مثل «حادث النصف متر، ووجهًا لظهر، ومشروع قتل جارة، والسيدة التى.. والرجل الذى، وحكايات صبرى موسى، ولا أحد يعلم، والسيد من حقل السبانخ»، وكذلك كتب الرحلات فى الصحراء والبحيرات، ورائعته المدهشة «فساد الأمكنة»، التى تعتبر من كلاسيكيات الأدب المعاصر، وصارت مرجعا وأثرا فنيا يمارس هيمنته على كثير من الكتّاب، للدرجة التى أصبحت نهبا للبعض فى السينما والأدب والمسلسلات التليفزيونية دون الإشارة إلى الصانع الأول لأسطورة رجل الصحراء «الأب نيكولا»، فى جبل الدرهيب، والذى صار يتكرر فى أعمال فنية أخرى دون أخلاقيات لأمانة النقل والاقتباس، ويحدث هذا دون إشارات النقاد الفنيين الأشاوس الذين يدركون فداحة ما أشير إليه، ولكن هذا الرجل الذى كان ملء السمع والبصر والصحافة، آثر الانسحاب من الحياة الثقافية، ليجلس فى بيته على جبل إبداعه الشامخ، بعد إصابته الصحية -شفاه الله- وهو كان فى آخر ممارساته الثقافية مقررًا للجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، وفى أحد الاجتماعات حدثت مشادة فى اللجنة بين بعض الأعضاء، وتبادلت أقصى وأقسى أنواع السباب الفاحش، مما دفعه إلى اتخاذ قرار عدم العودة إلى العمل العام مرة أخرى، ومن هنا أصبح إبداعه مجالًا لنهب هذا وذاك، هذا الإبداع الذى يتميز بكثافة الإيحاء والإشارات دون التصريح والتقرير، وهناك نموذج رائع نشرته مجلة «صباح الخير» فى 12 أكتوبر عام 1961، عنوانها: «حارامى.. حارامى»، والقصة باختصار تتحدث عن الأستاذ عبد الحميد الذى عاد إلى منزله بعد الثالثة صباحا، ونزل من التاكسى وصعد سلم بيته فى هدوء، وفتح الباب وتسلل إلى السرير بجوار زوجته، وفجأة شعر بأن هناك من يعبث بترباس باب الشقة، فنهض مسرعا خلف الشخص العابث، الذى قفز بخفة شديدة إلى خارج المنزل، وهنا استيقظ بواب العمارة، وراح عبد الحميد والبواب يجريان خلف هذا الشخص، وهما يصيحان: حارامى.. حارامى، حتى استيقظ الناس، وفتحوا شبابيك منازلهم، وصاح أحدهما فى الجمع الذى أحدثته هذه الحادثة غاضبا لهذه الضجة التى أفسدت راحته الليلية، وهنا أمسك أحد عمال البلدية الذى كان يجرى بعض الإصلاحات فى بالوعة الشارع الطافحة بالشخص الهارب، وانقض عليه عبد الحميد والبواب يضربانه بقسوة، وكان كل ما يشغل عبد الحميد هو أن يسأل: «ماذا كان يفعل هذا الشخص فى منزله وفى هذا الوقت المتأخر؟»، ولكن هذا الشخص غافل الجميع فى لحظة خاطفة، ليظل السؤال الساذج طافيا على وجوه الجميع، دون إشارات واضحة من الكاتب الذى أشبع القصة بتساؤلات وإيحاءات مختلفة، لتنتهى القصة بهذه الطريقة المفتوحة، وبهذه المناسبة، فصبرى موسى له مئات النصوص التى تأتى على شاكلة هذه القصص، ولم يضمها أى كتاب قصصى خاص، وأنتهز هذه الفرصة لأوجه التحية إلى الدكتور أحمد مجاهد، الذى يعمل بقوة ونجاح مبهر فى ظل مناخات محبطة ومؤسفة، وأصبحت الهيئة المصرية العامة للكتاب فى عهده، هى الجهة الأعلى نجاحا وتحقيقا للإنجازات الثقافية الملموسة، وأقول له ليتك تستكمل إبداعات صبرى موسى الأخرى، فهى لا تقل إبداعا عن كل النصوص الأدبية الأخرى، بالإضافة إلى سيناريو الفيلم الاستثنائى «البوسطجى»، المأخوذ عن قصة العظيم يحيى حقى.