منذ أن نشر علاء الديب سطوره الأولى فى مجلة «صباح الخير»، وهو يتعامل مع الأدب كمساحة لممارسة الفضيلة، يبدع القصص والروايات، ويترجم كذلك أجمل ما يقرأ من الشعر وفنون السرد، وقدّم مئات الكتب والروايات والمجموعات القصصية والكتب الفكرية والنقدية فى بابه الشهير «عصير الكتب»، ورغم أن هذا الباب بدأ مع الأعداد الأولى للمجلة، وكتب فيه صلاح عبد الصبور وأحمد عباس صالح وفوزية مهران وغيرهم، فإن جميعهم أفسحوا الطريق لعلاء الديب ليصبح باب «عصير الكتب» يخصه وحده، فهو الذى ترك علامة بارزة فيه، وجعل للأدب والثقافة منبرًا حرًّا ومستقلًا ورفيع المستوى، رغم أن الباب ينتمى إلى البيت الكبير الواسع «صباح الخير»، وهذا الاستقلال الذى يتمتع به هذا الباب هو جزء من شخصية وأداء علاء الديب نفسه، فعندما يذكر اسم علاء الديب فى أى محفل ثقافى وأدبى فلا بد أن ترفرف فى فضاء هذا المحفل كل معانى الاحترام والتقدير، وربما القداسة كذلك، هذا لأن علاء الديب عمل على ترسيخ كل القيم التى تضع للأدب مكانة خاصة، وبعيدة عن المجاملات والتسطيح والتسفيه والاستسهال والاستهبال، ولا توجد مساحة هنا للحديث عن إبداعه القصصى والروائى منذ أن أصدر مجموعته القصصية الأولى «القاهرة» عام 1964، وكان فى الخامسة والعشرين من عمره، ثم تلاها بمجموعة «صباح الجمعة»، وغيرها، وكذلك رواياته «زهر الليمون» و«أطفال بلا دموع» و«قمر على المستنقع» و«أيام وردية». هذه النصوص التى تستطيع أن تمسك فيها بخصائص بطل يتأمل فى ألم شديد من كثرة المحبطات التى تحيط به، ورغم أن هذا البطل محصور فى ركن ضيق من العالم -مصر أو العالم العربى- فإنه يستطيع أن يشرئب لمطاولة العالم أجمع، ولا تحده حدود زمنية فى الستينيات أو السبعينيات، بطل وجودى يبحث عن حلول توفر له آدميته وصلاحيته ليصل إلى الحد الأدنى لشروط الإنسان، وسط هذا العالم القاسى والمخيف، لن نخوض فى طرح إشكاليات علاء الديب فى إبداعه، فهى كثيرة ومركبة وعميقة وتحتاج إلى مساحة أوسع بكثير مما هو متاح، وهذا كذلك ينطبق على جهده النقدى المكثف والذى ظل يبدعه منذ أكثر من خمسين عامًا على صفحات مجلة «صباح الخير»، ثم فى جريدة «القاهرة» التى غدرت بهذه المتابعات فى لحظة عمياء من الزمن، حتى صفحات «المصرى اليوم» و«الأهرام» حديثًا، وقد أعدّ مختارات منها، ونشرتها دار الشروق بتقديم رفيع المستوى من صديقه العظيم إبراهيم أصلان. وأعتقد أن كتابات علاء الديب كلها لا تصلح معها فكرة المختارات، لأنها ببساطة بانوراما حقيقية وحوليات ثقافية عميقة لزمن فات وما زالت ثمراته قائمة بيننا، وعلاء الديب لم تقتصر متابعاته النقدية على الكتاب المصريين فقط، بل تجاوزها للكتاب العرب والأجانب، فمثلًا فى 21 سبتمبر 1972 يكتب فى مجلة «صباح الخير» عن مجموعة قصصية هى «العرى فى صحراء ليلىة»، للكاتب الفلسطينى محمود الريماوى، وفى رقة ودماثة خلق يقول الديب: «وهذا الباب لا يدعى لنفسه دور النقد والتقييم، ولكنه يأخذ على عاتقه مهمة التعريف والتقديم لما يعتقد أنه يهم القارئ العربى»، ورغم أن علاء يقول ذلك، لكنه يقرر أننا «أمام كاتب يخوض بجدية واضحة وأمانة نادرة تجربة الكتابة القصصية، متعرضًا لكل ما فى اللحظة الحاضرة من غرابة وغموض يشوب النفس والواقع المحبط»، ونجده فى مقال آخر يكتب فيه عن الرواية الأولى «سكر مرّ» للكاتب السكندرى محمود عوض عبد العال، يقول فيه: «تثير هذه الرواية مسألة الرمز، فليس كل غموض رمزًا، وليس كل تلميح بلا تصريح رمزًا، الرمز فى الفن بناء محسوب مخطط واضح.. يطلب معانى أكبر وأغزر من الواقع.. الرمز فى الفن ليس إشارة أو غمز»، ولا يفوت الديب أن يوجه الكاتب عندما يقول: «ولكن شاعرية الرواية لها كثير من أوجه النقص»، وهذه هى أمانة الناقد المبدع علاء الديب، يقول ما يراه إيجابيًّا فى النص، ولكنه يضع رؤيته فى قلب النص فاحصًا ما ينقصه حسب ما يرى، دون أن يدَّعى الكمال فى ما يكتب، وهو لم يتحرَّج أن يكتب عن رفاقه ومجايليه وزملائه مثلما كتب عن رواية «حادث النصف متر» لصبرى موسى فى عنوان لافت :«العنوان الشاطر والجملة اللعوب» وجاء فى المقال: «إن صبرى موسى يكاد أن يكون أبرع الزملاء فى اختيار العنوان، وأقدرهم على تركيب الجملة اللعوب.. ولعل هذا ميزته ونقصه فى آن واحد»، وكتب عن مجموعة «أرض أرض» لجمال الغيطانى، وعن ديوان «كان لى قلب» لأحمد عبد المعطى حجازى، وكتب مقالًا بديعًا عن رواية الغائب الحاضر سعد مكاوى: «السائرون نيامًا» وكان عنوان المقال فى حد ذاته رؤية نقدية «حرفية.. الأستاذ»، وعن الرواية الأولى لخيرى شلبى وهى «اللعب خارج الدائرة»، ويقول عنها: «القصة فى تركيبها وفى صياغتها عمل يتميَّز بالفراسة ودقة الصنع والأسلوب والرؤية جديدة وخاصة»، وهذا كان حديثًا نقديًّا مبكرًا جدًّا عن خيرى شلبى، ووقت صدور الرواية فى مطلع السبعينيات، وكذلك كتب عن ظواهر ثقافية مثل ظاهرة سلسلة «أدب الجماهير» التى يصدرها فؤاد حجازى من المنصورة، وكتب كذلك مقالًا عن مجموعة بهاء طاهر القصصية الأولى «الخطوبة» تحت عنوان لافت «قصاص يحافظ على التقاليد»، ويقول فيه موضحًا «إن بهاء طاهر يحترم القصة القصيرة، يحترم تقاليدها ويحاول المحافظة عليها، لا لأنه يرفض الجديد، ولكن لأنه يعرف الإمكانيات الغنية والوفيرة التى يملكها هذا الشكل العزيز من أشكال الكتابة»، كذلك يشاغب علاء الديب الكاتب سليمان فياض فى روايته «أصوات» فى مقال عنوانه «سيمون والدروايش»، ويصف العمل بالضعف، كما أنه يذكّره بإحدى روايات الكاتب الأمريكى «فوكنر»، ويتساءل علاء الديب: «هل يرجع ضعف العمل من الناحية الفنية إلى شكل الرواية الذى اختاره المؤلف، بينما هو قد مارس القصة القصيرة بأنواعها المختلفة لمدة طويلة.. أم يرجع إلى غرابة الموضوع على روح المؤلف الهادئة؟»، مما يدفع سليمان فياض إلى التعقيب، فيرد علاء الديب بعده فى مقال عنوانه: «عن القصة.. والرأى والأصدقاء»، لذلك كانت مساحة «عصير الكتب» لعلاء الديب حيوية وفاعلة ودسمة ونبيلة، وبلا شك قدمت مناخًا كاملًا وعادلًا للحياة الثقافية بعيدًا عن الشللية والتربيطات، وهذا كله من أجل فضيلة الأدب لكاتب نبيل وكبير وراقٍ اسمه علاء الديب.