منذ بدأت ثورة يناير قررتُ أن لا أغادر القاهرة إلا للشديد القوى، وفعلا لم أسافر على مدى العام الماضى سوى مرة واحدة فى يوليو الماضى، ثم اليوم إلى تونس. ميدان التحرير الذى تركته كان محتشدا، وكوبرى قصر النيل الذى وقفنا عليه ساعة حتى عبرناه يشهد. لكن احتشاد الميدان والمسيرات التى قادت عليه شهادة على اضطراب عملية انتقالية متعثرة، تثير من الغضب والإحباط أكثر مما تثير من البهجة والأمل، لدى قوى الثورة مثلما لدى المواطن العادى. تأخذنى الرحلة إلى تونس من الاستغراق فى تأمل هذا الإحباط وتحسس طرق الخروج منه، وتذكرنى -وإياكم- بأن الربيع العربى عربىٌّ، لا ظاهرة مصرية فقط. وأسأل: لماذا -رغم ادعائنا المستمر بريادتنا للعالم العربى- نسينا فى غمار ثورتنا أن هناك عالما عربيا يغلى وينفجر معنا؟ هل فعلنا شيئا لليبيا وهى تشتعل ثم تنفجر ثم تُدَكّ أم وقفنا نرقبها فى صمت، يكاد يصل إلى حد عدم الاهتمام؟ هل ساعدنا اليمن أو حتى اهتممنا بتتبع ثورته التى رافقتنا خطوة بخطوة، وسقط فيها الشهداء والجرحى مع شهدائنا؟ وهل نفعل شيئا -أى شىء- لسوريا التى تدمى؟ ما تفسير هذا التمحور الشديد على الذات لدينا، كأننا وحدنا فى هذا العالم، وكأن ثورتنا ليست جزءا من تيارات أوسع وأعمق تعتمل العالم العربى بكل بلدانه؟ ومقابل سكوننا -نحن الرواد القادة أصحاب الدور المحورى- من الذى يتحرك ويحاول المساعدة فى العالم العربى؟ لن تخطر الإجابة على بالك، وقد تحتجُّ على إجابتى، ولكن تأمل جيدا قبل الرفض: أليست الجامعة العربية هى التى تتحرك على الأرض فى سوريا؟ هل من أحد آخر؟ الجامعة العربية، بعقمها الشهير، والحقيقى، وترهلها، وخشونة أدواتها وقلة حيلتها، وقيودها، هى الوحيدة التى تحاول -على الأرض- أن تجد حلا حقيقيا ومخرجا للأزمة الطاحنة فى سوريا. أذكر هذا لأنى ذاهب إلى تونس مع لجنة مستقلة يرأسها الأخضر الإبراهيمى، طلب منها الدكتور نبيل العربى أن تدرس كيفية إصلاح الجامعة العربية كى تصبح جزءا من عملية التغيير وأداة له، بدلا من أن يجرفها هذا التغيير فى طريقه. أذهب مع بقية أعضاء اللجنة إلى تونس لنستمع إلى ما لدى الأشقّاء -بل أقول الرواد- التوانسة وفى المغرب العربى. وذلك بعدما استمعنا إلى أفكار ومقترحات كثيرة عبر الشهرين الماضيين. وسنواصل الاستماع خلال الأسابيع القادمة إلى مقترحات وأفكار حول تطوير الجامعة. يسألنى المتشكك: هل من الممكن إنقاذ الجامعة العربية من براثن تقاليد العمل العربى العقيم التى ترسخت عبر أكثر من ستين عاما؟ هل من الممكن لنفس النظم التى أنتجت هذا العقم كله أن تتغير فجأة وتأتى بشىء جديد؟ الإجابة البديهية هى لا، ولكن -وهذا بيت القصيد- النظم العربية نفسها تتغير، وبسرعة. تسقط نظم فى كل أنحاء البلاد العربية وتقوم نظم جديدة. هناك من يقاوم بشراسة، وهناك من يقاوم بذكاء، لكن لا هذا ولا ذاك قادر على وقف موجة التغيير العارمة، لأنها ببساطة تعكس تغير المجتمعات العربية نفسها. ستتغير النظم فى كل البلاد العربية، بشكل أو بآخر، وكلها -مثلنا فى مصر- منكبّ على نفسه مشغول بمشكلاته. وإذا تأملت الواقع، بعيدا عن الأحكام المسبقة فستجد أن المؤسسة الوحيدة التى تواكب هذه التغييرات من ليبيا وحتى سوريا، هى الجامعة العربية، بكل مشكلاتها. هى الأداة التى لدينا، وهى الوحيدة التى تبذل جهدا على الأرض لمواكبة هذا التغيير (مع كل التحفظات على هذا الجهد). قد ترى -مثلى- أنها تحتاج إلى عملية هدم وإعادة بناء شاملة، وقد ترى مثل آخرين أنها تحتاج إلى إصلاح، لكننا كلنا فى نهاية الأمر نحتاج إلى جامعة عربية حقيقية وفعّالة، ومن هنا أهمية إصلاحها. ولنرَ ماذا سيقول التوانسة فى ذلك.