يعيدك ما يجرى اليوم فى قناة السويس إلى استدعاء أوراق من تاريخ بلد، تاريخه «راقات» يمتذج فيها الوجع بالأمل. توسعة القناة أو قناة السويس الثانية فى عام 2014، يتسابق ملايين من المصريين للإسهام فى تمويلها، كل واحد حتى مَن لا يسهم بقرش، يشعر أن له حق و«نايب» فى خير جاى، من جنيه لملايين، يسهم المصريون فى قناة تحفرها شركات مصرية، بآلاف من الأيدى الممدودة للغد، وبإشراف هندسى لجيش وطنى، وفى أحضان حكم مستقل بقراره الوطنى. فى المرة الثانية أو قناة السويس الثانية مطاعم لعمال تستخرج مستخلصاتهم المالية قبل أن يجف عرقهم، مستشفيات ميدانىة، عربات إسعاف و«ميّه ساقعة» أو زمزميات مبرّدة، فى كبائن سائقى اللوادر والبلدوزرات المكيّفة. الباحثة الفرنسية «نتالى مونتل، صاحبة دراسة تاريخية متفردة، عن ظروف حفر قناة السويس الأولى، انتبه إليها أستاذ التاريخ الكبير قاسم عبده قاسم، منذ سنوات، وأصدرتها دار النشر التى تشرف عليها دار «عين»، فى ترجمة للدكتور عباس أبو غزالة، بعنوان: قناة السويس، المشروع والتنفيذ (1859-1869). على الرغم من أن الدراسة انصبت على الوجه التقنى، فإنك بالإمكان أن تلتقط فى الثنايا، بعضًا من الظروف التى سادت، بدءًا من دقائق العلاقات الإنسانية وحتى سرقات المقاولين، واختلاساتهم لقوت الغلابة، وحافرى القناة بالسخرة. الباحثة نتالى قدَّمت بحثها، الذى هو فى الأصل رسالتها لنيل درجة الدكتوراه، فى ندوة أقامتها «جمعية فرديناند ديليسبس» ونالت جائزة إدوارد جوبى، وتناولت السنوات العشر التى استغرقها مشروع القناة، من أول ضربة فأس ضربها فلاح مصرى وحتى الافتتاح، صورة حيَّة للتفاصيل لمعترك تجربة فريدة أدرجتها منظمة اليونسكو فى سجل «ذاكرة العالم» لأهميتها ليس فقط بالنسبة إلى التاريخ المصرى، بل لتاريخ الإنسانية. خصوصية بحث نتالى تأتى من النظرة الكلية، صحيح أن عنايتها الأولى كانت موجَّهة إلى المشروع، كمنظومة، أو كما عبَّرت «كورشة» للإدارة والميكنة، كمشروع معقَّد، لكن تفاصيل بسيطة، تستلها العين، فتشى بالحال، حال «اللقمة» و«الهدمة»، حال «البدن» الممروض، الواهن، تحت الشمس، يشتهى شربة ميّه، فلا ترويه إلا بحور عرقه. المليارات التى فاض بها عطاء أبناء البلد الوطنيين فى مشروع قناة السويس الثانية، يقابلها اكتتاب ب200 مليون فرنك، تم جمعها بصعوبة شديدة، بعد موافقة شفهية من الخديو سعيد (المولود فى 1855) إلى فرديناند ديليسبس فى 19 مايو 1855. افتتح الاكتتاب حتى قبل اكتمال مشروعية المشروع، ولم يبع إلا ستة وخمسين فى المئة من الأسهم، وكانت قيمة السهم خمسمئة فرنك. أطلق على ساحة العمل اسم «المعتقل» أو «صحراء المعتقل»، وكانت «شربة الميّه» هى المعضلة، صحيح كانت هناك خزانات تحفظ مياه الأمطار، وبعض الآبار، وصنعوا ثلاثة أجهزة لتقطير المياه لتوفير خمسة آلاف لتر يوميًّا، لكن لمن كانت شربة الميّه، وكيف لفلاح يعمل بالسخرة أن يرتوى؟ حدّد فرمان الامتياز الأول أن يكون أربعة أخماس العمال من سكان البلد الأصليين، ثم عدّل تحت وطأة تخوفات خديوية من الأجانب، وانتهى الأمر باشتراط أن تمد الحكومة المشروع المستخدمين. «السخرة»، أن تعمل بلا أجر، كانت هى الوسيلة، يُستجلب الفلاحون من سخرة إلى سخرة، من العمل مجانًا فى الرى وتوسعة القنوات، وزراعة أراضى الوالى، وصيانة الجسور والخزانات والسدود، إلى العمل دون أجر أيضًا فى القناة. تقول الباحثة إن «السخرة» كانت تبلغ أحيانًا أن يعمل الفلاح كل ثلاثة أيام فى موضع، وقد شكَّل صيادو بحيرة «المنزلة» مقدمة ركب السخرة، قاموا طوال عام 1860 بحفر مجرى مياه عبر البحيرة، وفوق بعض الكثبان شيَّدوا أكواخًا من القش والطين، عاشوا بحسب تعبير الباحثة فى «مستنقع أسود» من الطمى الموحل، ينحنون للأمام، يغرسون الأقدام، يغوصون فى وحل حتى منتصف أطوالهم، ليأخذوا بأيديهم أكوام التراب من القاع بعد أن يقوموا بتقليبها بالفأس، لتنتقل «الأكوام» من يد إلى يد، تحت انبعاث هائل لروائح الهيدروجينالمكبرت (بضم الميم وفتح الكاف) المنبعث من تقليب الطين تحت وهج الشمس. كانت جرامات شحيحة من الأرز والبصل هى القوت الذى لا يضمن وصوله أحد، ثُلث كيلو أرز للوجبات الثلاث وأربعون جرام بصل، وكان الموت جوعًا أو عطشًا أو تحت ضربة الشمس هو القاسم اليومى. هكذا كانت الحال. أما كيف أصبحنا، فأرجوك: عُد إلى بداية المقال. صار المصرى إنسانًا.