«أنا لم أشرك بالإله، أنا لم ألوث ماء النيل، أنا لم أطفئ شعلة في وقت الحاجة إليها» حين ردد المصرى القديم تلك الكلمات فقد أكد أنه أدرك تماماً أهمية هذا النهرالعظيم كمكون بيئي طبيعي أمده الله به فقدسه كبيراً . هذا النهر الذى يأتى مصر منهكاً بعد رحلة طالت فى أرض الله الواسعة فيأبى بعدها أن يستريح ، و يظل لا يقبل من هبته مصر إلا أن يتصدر كل مشاهدها فى دور البطولة التى لا يقبل بدور غيرها ، وعندما تهم مصر بربط بحريها الأبيض و الأحمر من خلال أكبر مشروع ملاحى يشهده العالم ،يظل النهر العظيم مصراً على حضوره الحتمى ، فيبقى السؤال ، ماذا حدث حين غاب هذا النهر ؟ و كيف تحولت حياة هؤلاء المصريين البسطاء إلى جحيم العطش بعد أن انتزعتهم يد السلطة من أرضهم الخضراء التي يرويها لهم نيلهم العذب ليقذف بهم في أرض جدباء لم يعرف النهرلها يوماً طريقاً . عندما غاب النيل عن مشهد الحفر كتبت- نهلة النمر : المنتدى الوطنى لحوض النيل قدم عدة إصدارات توثق للحياة فى مصر ما بين القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين و منها إصدار بعنوان « للنيل وجوه آخرى» حيث تناول الإصدار صفحات رائعة فى حياة النهر العظيم اخترنا منها هذه الصفحة بمناسبة ذكرى افتتاح قناة السويس و التى توافق 16 نوفمبر1869. عندما فكر المغامر الفرنسي فرديناند ديليسبس كيف يدخل التاريخ من مصراعيه سخر عقله لإقناع والى مصر آنذاك محمد سعيد باشا للحصول على امتياز بحفر قناة تربط البحرين الأحمر و الأبيض ، كان هذا المشروع يعني اختراق صحراء قاحلة هي صحراء السويس و كان التحدي في هذا المشروع يتمثل أولاً فى جلب الأيدي اللازمة لحفر القناة ، وثانياً فى توفير مورد دائم للمياه يغذي العمال في هذه الصحراء .وثمة اتفاق كان قد تم في صلب هذا الامتياز بموجبه تقوم الشركة المسئولة عن المشروع قبل البدء في تنفيذه بحفر ترعة للمياه العذبة تخرج من النيل في القاهرة ، و يسقى منها آلاف العمال وسط ظمأ الصحراء الجرداء حيث كان الحل الوحيد لمواجهة العطش هناك يكمن في حابى العظيم قلب مصرالنابض دوماً بالحياة ، و كان المتفق عليه هو أن يخرج من النيل فرع يغذي العمال العاملين في حفر القناة. وهو ما نُص عليه في عقد الامتياز .. على أن تتولى الحكومة المصرية حفر الترعة على نفقة الشركة المسئولة عن مشروع القناة . في بادئ الأمر كانت الامور تسير كيفما ينبغى لها أن تسير حتى أن الوالي محمد سعيد باشا أصدر أوامره بالبدء في حفر ترعة المياه العذبة و استورد من إنجلترا المهمات اللازمة لتنفيذ المشروع ، وبدأ المهندسون بالفعل في وضع علامات على الأرض لتحديد خط سير الترعة . ولكن للأسف توقف المشروع فجأة ، إنها السياسة التي لا تعرف البشرولا العواطف أو المشاعر ، ففي الوقت الذي كانت فيه الحكومة المصرية تعد العدة لحفر الترعة كانت تدور في أوروبا رحى الدسيسة بين إنجلترا وفرنسا فقد كانت إنجلترا تنظر بعين الريبة نحو علاقة الفرنسيين بمصر و واليها وتعتبر مشروع قناة السويس برمته يهدد مستعمراتها في الهند، وعليه بدأت الحكومة الإنجليزية تهاجم المشروع بشراسة مما أوجس الخوف في نفس ديلسيبس من أن ينهار حلمه الشرقى وينسحب منه المساهمون وعلى رأسهم والي مصر . فأرسل ديلسيبس لوالي مصر خطابا أفاد فيه بأن الوقت في حفر ترعة الماء العذبة التي هي جزء لا ينفصل عن مشروع حفر القناة يعد أمرا سابقا لأوانه و أنه يتوجب علينا الإسراع في البدء بالمشروع دون انتظار حفر الترعة. يقول الباحث المؤرخ الدكتور عبد العزيز الشناوي عن المشهد في ساحات الحفر: (في الصحراء وفي غيبة ماء نهر النيل كان المشهد مأساويا قاتما كانت القنال تواجه في ذلك الوقت أخطر مشكلة صادفتها أثناء تنفيذ المشروع وعرضت أرواح العمال المصريين في صحراء البرزخ للخطر و الموت عطشا ) . وقد تخبطت الشركة في محاولة إيجاد حلول لمشكلة المياه فكانت تنقلها أحياناً من دمياط و بورسعيد في قوارب الصيادين و منهم الحاج محمد الجيار، أحد أصحاب مراكب الصيد فى بحيرة المنزلة حيث قام بنقل مياه الشرب فى براميل من مدينة المطرية فى الدقهلية إلى بورسعيد، مقابل عشرة فرانكات للمتر المكعب. وللآن فإن أهالى المطرية، خصوصاً كبار السن، مازالوا يتداولون هذه الحكايات ، مؤكدين أن هذا الدور كان سبباً لإعفاء أهالى البلدة من السخرة ،أو نقلها من الإسكندرية على بواخر ، و بعدما فشلت كل هذه الوسائل فى حل مشكلة المياه استوردت الشركة ثلاثة مكثفات تباعا لتحويل مياه البحر المالحة إلى ماء مستساغ. كما كانت تعتمد في بعض الأحيان على بعض آبار الصحراء تنقل منها الماء في براميل على ظهور الجمال إلى حيث يشتغل العمال، و لكن للأسف لقي كثير من المصريين حتفهم بسبب تأخر وصول هذه المياه إليهم. ظلت حياة آلاف العمال المصريين العاملين في الصحراء في مشروع حفر القناة معلقة تنتظر من الصدف وحدها الحياة أو الموت فربما ضلت قافلة الجمال التي تحمل الماء طريقها إليهم أوتعطل أحد المكثفات ، أو هبت رياح شديدة منعت وصول أي قارب أوسفينة تحمل الماء للعمال،وقد حدث بالفعل فى عام 1861 حيث هبت عاصفة استمرت يومين تقريبا منعت وصول القوارب المحملة بالمياه حتى إذا ما هدأت العاصفة وظهرت القوارب في الأفق اندفع العمال نحوها وهجموا على براميل الماء ليرووا ظمأهم. و حسبما روى أحد الفرنسيين شاهدا على هذه الواقعة في مذكراته ) أنهم اغتصبوا شحنة الماء لقد كان المشهد يتجه نحو العبث، وكان موت العمال عطشًا في صحراء السويس مأساة حقيقية ، كانوا يتساقطون كالذباب صرعى، والبعض منهم ما إن يشعر بنقص المياه في موقع العمل كان يلوذ بالفرار هربا..ولكن إلى أين المفر!!؟هل إلى الأماكن التي توجد بها المياه ولكن أين هذه الأماكن لقد كانت بعيدة جدا فكانوا يموتون أثناء هروبهم في الصحراء عطشًا أيضا. وفي هذه المأساة كان النيل هو الغائب الحاضر في أذهان المصريين البسطاء الذين ساقوهم قسرا للصحراء ،كان النيل الذي غاب عن حياة المصريين في هذه اللحظات هوالفارق بين الحياة والموت.بعد أن أسقط أصحاب المصالح من حساباتهم فكرة حفر ترعة تخرج من ماء النيل لتمد العمال بالماء في الصحراء، واعتمدوا على حساب المقامرين لإيجاد المياه بأساليب غير مضمونة. ورغم أن الشركة المسؤولة عن حفر القناة قد مدت فيما بعد ترعة للمياه العذبة لمواقع الحفر ، إلا أن ذلك لم يحل دون وفاة الآلاف من العمال في صحراء السويس عطشًا بعد أن غاب النيل عن حياتهم حيث تؤكد الوثائق ان إجمالى عدد العمال الذين عملوا فى حفر القناة كان مليون عامل تقريبا ، وأن عدد الذين توفوا منهم أثناء الحفركان أكثر من 120 ألفاً، فى قناة بلغ طولها 165 كيلو متراً وعرضها 190 متراً وعمقها 58 قدماً. عودة لقراءة تاريخ سعيد باشا و"ديليسبس" في حفر قناة السويس كتبت- نعمة عز الدين : هذا الكتاب للدكتور «أحمد يوسف» الحاصل علي الدكتوراه من جامعة السوربون حول (الولع الفرنسي بمصر..من الحلم الي المشروع ) بعنوان (ديليسبس الذي لانعرفه ) والذي صدر عام 2004 عن المشروع القومي للترجمة دعوة الي إعادة قراءة تاريخ رجلين ارتبط مصيرهما بحدث تاريخي وهو مشروع شق قناة تربط العالم القديم بالعالم الجديد وتعرف بقناة السويس التي ستغير ليس فقط في تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فقط بل ستغير وجه العالم كله. يبدأ الدكتور أحمد يوسف بشخصية «سعيد باشا « ابن» محمد علي باشا «الذي رفض كلياً فكرة شق قناة تربط بين البحرين الاحمر الابيض المتوسط وكانت قناعات «محمد علي باشا « في ذلك الوقت أن شق قناة توصل بين البحرين سيزيد من حجم الاطماع الدولية في مصر وبخاصة انجلترا فرفض بشكل قاطع مشروع «السان سيمونيين» ليجئ ابنه «سعيد باشا « ويوافق لصديقه الفرنسي «ديليسبس» والذي رافق طفولته علي مشروع شق القناة هذا المشروع الذي سيغير وجه الحياة في العالم و تزامن تقريباً مع اختراع القطار وبزوغ عصر السرعة والبحث عنها بأي وسيلة . يقول الدكتور أحمد يوسف عن «سعيد باشا «: ان اقتناع «سعيدا « بالفكرة التي قدمها له «ديليسبس» كان نابعاً من قناعاته السياسية وهي : أن يكون المشروع سياسياً مصري الطابع أي يصدر الامتياز من مصر وليس من أسطنابول علي ان تكون موافقة الباب العالي لاحقة ولكن ليست ضرورية .كذلك ان يكون التمويل دوليا بشكل مطلق وبذلك لن تتمكن دولة ما حتي لو كانت إنجلترا من ان تضع يدها علي القناة وبالتالي ستكون مصر في مأمن وسيكون استقلالها مضموناً بل ان الدول المساهمة في المشروع وكلها دول عظمي ستكون في هذه الحال الضامن العملي لاستقلال مصر . ربما لم يكن «سعيد باشا « الحاكم الداهية كأبيه «محمد علي باشا» ولكن علينا ان نقرأه وننصف تاريخه ومواقفه فمثلا ملف السخرة للمصريين في حفر القناة ارتبط واقعيا بالانجليز لانهم اول من اثارها في مقال في مجلة التايمز البريطانية بتاريخ 25اكتوبر1855 وهو المقال الذي رد عليه «ديليسبس» في صفحات مطولة ومنها جزء يقول فيه : ان المراسل رسم صورة قاتمة جداٍ وغير امينة في رأيي للعامل ابن البلد تحت سيطرة الادارة وإهمال المديرين ،في أي شئ تفيد صورة هذة المقابلات ؟ إن الادارة المصرية ليس لها اي دخل هنا. إن العمال سيكونون أجراء الشركة وبطلب منها وتحت مسئوليتها. يقول الدكتور احمد يوسف تعقيباً علي رد «ديليسبس» علي مقال «التايمز» البريطاني : «ديلسيبس» يضع اذن الكادر القانوني والاداري وبالتالي الاخلاقي لتوظيف العمالة المصرية في عمليات الحفر وهو كادر مسئولة عنه تماما شركة القناة ولا ينبغي ان ننسي اننا هنا في عام 1855 اي ان اعمال الحفر لم تكن قد بدأت وبعد 4 سنوات من تاريخ هذا اللغط حول العمال المصريين . هناك إذن نية مبيتة لدي الانجليز لاستخدام العمالة المصرية كسلاح تواجه به عزيمة «ديليسبس» . ثم ينصف الدكتور احمد يوسف «سعيد باشا» في ملف السخرة للمصريين مشيرا الي اللائحة التي اصدرها سعيد لتنظيم تشغيل العمال المصريين في حفر القناة بتاريخ 20 يوليو 1856 اي بعد ثمانية اشهر علي الجدل الذي اثاره الانجليز وهذة اللائحة وهي كلمة حق للتاريخ كان «سعيد باشا» حريصاً علي رعاياه من المصريين بل ان قضية السخرة ذاتها نجم عنها « تناقض مصري صارخ « ذلك ان سعيد أراد ان يجنب مصر هبوط حشود من حثالة العمالة الاوروبية وافواج من عمال جنوب آسيا مثل الصين تم التفكير فيها بالفعل فأجبر الشركة ان يكون أربعة أخماس العمال من المصريين ، مقابل ان تضمن الحكومة المصرية تزويد الموقع بالعمال اللازمين ومن هنا نشأت مشكلة جمع الفلاحين بالقسر وتوجيههم الي موقع الحفر، فالمسألة إذن شبه مقننة من الناحية العلمية الانتاجية ولكنها كانت مقننة جداً أيضاً من ناحية القوانين التي تحمي هؤلاء وتضع مسئولية هذه الحماية كامله علي عاتق الشركة ولاينبغي أن ننسي ان وجود هؤلاء العمال المصريين كان ضرورياً من الناحية السياسية لأنه جنب مصر هبوط جحافل من أرذل الشعوب للعمل ثم الاستيطان بمصر وهو ما كان يريد سعيد تجنبه بأي ثمن . وأخيرا هذا الكتاب للدكتور احمد يوسف عودة مهمة لكي نقرأ تاريخنا بألف زاوية ومن خلال وجهات نظر متعددة حتي ننصف أنفسنا ونعرف قدرنا تاريخياً قبل غيرنا .