ما حدث في الثالث والعشرين من يوليو1952, أكبر من ثورة, أكبر من مجرد إطاحة بأسرة ملكية فقدت مبررات الوجود, بل هو أكبر من ثورة حررت التراب الوطني من الاستعمار. إنها صوت أمة كاملة, خرجت من تحت الرماد ومن تحت الانقاض, خرجت تمتلئ بإرادة الحياة وتحمل مشاعل الإيمان بنفسها والثقة في ذاتها. وملحمة القناة, تضيء جوانب التاريخ, وما قبل الثورة يشهد أن ثورة يوليو هي بداية التاريخ الحي, هي لحظة الانبعاث من المرقد الاجباري الذي تمددت فيه جثة هذا الوطن عقودا متوالية, حتي أشرقت شمس الحياة ترسل شعاعا من قبس الإله, علي قافلة الرجال الذين خرجوا ليلتقوا مع التاريخ علي موعد مع القدر العظيم. في الثلاثين من نوفمبر1854, في مدينة الإسكندرية, بطريقة سرية, تحت أجنحة الظلام, وفي غياب المصريين منح حاكم مصر, سعيد باشا, النصاب الفرنسي ديليسبس, امتياز تأسيس شركة عالمية لحفر قناة تربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط, وتضع مصر تحت هيمنة ثم احتلال الأوروبيين لها. في السادس والعشرين من يوليو1956 في مدينة الإسكندرية, في ضوء النهار, في حضور المصريين جميعا, علي مشهد من العالم كله استردت ثورة يوليو قناة السويس, واستعاد جمال عبدالناصر ما أضاعه سعيد باشا, وامتلك المصريون لأول مرة وإلي الأبد قناة السويس التي حفروها بالسخرة, بالمقطف علي الكتف, بالفأس في اليد, بالكرباج علي الظهر والبطن, بالجوع, بالعطش, بالمرض, لتجري الماء بين البحرين, تحمل قوافل ما ينهبه الأوروبيون من خيرات المستعمرات, ومن قوت الشعوب في قارات الدنيا كلها. ديليسبس كان نصابا محترفا, يساعده قنصل فرنسا في القاهرة, ويقف وراءه ملك وملكة فرنسا من هناك في باريس. وبدأ مسلسل النصب.. أجبروا مصر علي أن تتحمل نفقات دراسة المشروع, حتي إذا انتهت أجبروها علي أن تدفع نفقات الدعاية اللازمة لجذب المساهمين في المشروع, حتي إذا انتهت أجبروا الحاكم سعيد باشا علي أن يكتتب بباقي أسهم المشروع, وكانت تساوي ثمانية وثمانين مليون فرنك, من اجمالي مائتي مليون فرنك, ولما اعتذر بأنه لا يملك هذا المبلغ الضخم, ضحكوا عليه, وخدعوه, وعرضوا عليه أن تتولي الحكومة الفرنسية السداد عنه بقرض, ثم تسدد مصر هذا القرض الجائر, علي خمسة عشر قسطا. وفي17 نوفمبر1869, كان الافتتاح.. أكثر من امبراطور, وأكثر من ملك... وسفراء.. وقناصل... ودنيا لا أول لها ولا آخر.. ولاموضع قدم لأي مصري في هذا الليلة من ليالي ألف ليلة..