حكايتى مع موقع «فيسبوك» بدأت منذ 4 سنوات فقط، كنت أسمع عنه طبعا، لكننى لم أهتمّ أبدا بأن أعرف تفاصيله، قال لى صديق عزيز، كنا نتراسل عبر البريد الإلكترونى، إنه يمكن أن نتواصل أيضا عبر اختراع اسمه «فيسبوك»، لم أكذّب خبرا، كتبت الكلمة على «جوجل»، ظهرت بيانات فملأتها، ثم أصبحت مشتركا، بحثت عن صفحة الصديق، وجدتها، ظللت ما يزيد على الشهر لا أعرف، وغير مهتم بأن أعرف المزيد، مجرد صفحة لا أعرف وجهها من قفاها. عرّفنى صديق آخر أننى يمكن أن أتواصل عبر «الفيس» -اسم الدلع- مع أصدقاء وزملاء من الماضى، أعجبتنى الفكرة، جرّبتها فأسعدتنى. ظللتُ شهورا دون صورة شخصية، وشهورا مش واخد بالى إن فيه حاجة اسمها «لايك»، اكتشفت إمكانيات رائعة ل«الفيس»، منها تنزيل الصورة، تحمَّست جدا لدرجة أننى فكَّرت فى عمل جريدة بحالها على الصفحة، ثم جاءت أحداث 25 يناير التى لمستُ شواهدها على الصفحات النارية، لا أنسى طبعا «صفحة خالد سعيد». تطوَّرت علاقتى بهذا الاكتشاف، وأصبحت صفحتى وسيلة تواصل مع أصدقاء لم أقابل معظمهم، لا أعتبر موقع «فيسبوك» وسيلة افتراضية، كيف تكون كذلك وخلف كل لوحة حروف إنسان يكتب ويحسّ ويشعر؟ هناك عِلم عظيم بحاله اسمه «الآثار»، أسموه كذلك لأنه العلم الذى يقتفى آثار البشر «الراحلين» فوق الأشياء والأماكن ويحافظ عليها، كيف أقول إذن إن علاقتى بأصدقاء الكيبورد الأحياء افتراضية؟! كلمة «facebook» معناها حرفيا «كتاب الوجه»، قرأت أن أصلها هو كتاب الصور السنوى أو الشهرى الذى كانت تصدره كل كلية أمريكية، وفيه صور طلاب كل دفعة وبياناتهم للتسجيل والتعارف، ثم انتقلت الفكرة إلى الفضاء الإلكترونى. «فيسبوك» بالنسبة إلىَّ لم يعد مجرد وجوه، لكنه نافذة عظيمة تفتح على بشر وأرواح وأفكار وأحلام، آمنت دوما بأن البشر أهم ما يوجد على الأرض، وأبرز ما يستحق الاهتمام، علّمونا فى قسم الصحافة أنك دون الناس لا تستطيع أن تكتب حرفا أو أن تنجز موضوعا، الناس هى المادة التى أعمل عليها، من المستحيل أن يكون اختلافنا فى الشكل إلا ترجمة لتفرّد أعمق، لا يوجد إنسان ليس نسخة فريدة، الذى لا يؤمن بذلك إما أنه لا يعرف وإما أنه لا يثق بنفسه وإما أنه لا يريد أن يكون نسخة فريدة، يشعر بالطمأنينة بأن يكون تابعا أو ذيلا، لا يوجد إنسان لا يمتلك موهبة أو أشياء يريد أن يقولها، أو يفضفض بها لنفسه أو للآخرين، لا يوجد إنسان لا يمتلك قصة يستطيع أن يرويها، القصة هى أحد الأبعاد الأساسية للإنسان كما قال يوسف إدريس، وكما آمنتُ دوما. قمتُ بتحويل صفحتى إلى حوار مع الفن والسياسة والتاريخ والماضى والحاضر، بدا كما لو أن الأصدقاء يستفيدون منى، بينما أنا الذى استفدت وأستفيد من كل واحد منهم، اكتشفت كناقد معلومات ثمينة جدا عن ثقافة الجمهور ودرجة وعيه. استفدت حتى من الذين يختلفون معى جذريا، الإنسانية تُشبه بالضبط المحيط الواحد الذى يستحيل أن تعرف حدود كل قطرة فيه، لا تعرف بالضبط من أين تبدأ، وإلى أين تنتهى، هذا الثراء الإنسانى الذى وفَّره لى «فيسبوك» لا يقدَّر عندى بثمن. «فيسبوك» معناه أن الإنسان يبحث عن الونس ولا يجد ذلك إلا مع الآخر، لو كنا كلنا لونا واحدا ما تواصلنا، التنوع هو سر التواصل، هذا هو الدرس الأول الذى يغيب عن الكثيرين، الأصل أن نختلف، لكن السؤال هو: كيف نختلف أو نتجادل دون أن يحذف كل واحد مَن يختلف معه؟ درس آخر مهم: تلك الصفحات هى مستودع الحلم والحقيقة، لا تتكلَّف أبدا فى التعبير عن مشاعرك، اعكسْ ذاتك ببساطة ودون تكلُّف، كنْ كما أنت لأن لك لونك مهما كانت ثقافتك أو معرفتك أو حجم موهبتك. «فيسبوك» يُعلّمنا أيضا أن كلمة «صديق» شىء ثمين وخطير وعميق، وأن الجدل له أصول وقواعد ومناهج، وإلا تحوَّل الأمر إلى نوع من الحرث فى البحر. «فيسبوك» عندى ليس إلا بشرا تحوّرت وسيلة التواصل معهم، بورتريهات مكتوبة مثل التليفون الذى لا يزيد على بشر مسموعين، قال سقراط لتلميذه الصامت دوما: «يا عزيزى.. تكلَّم حتى أراك»، و«فيسبوك» ليس إلا كائنات إنسانية تكلَّمت فرأيناهم وعرفناهم من وراء حجاب. أذهلتنى ثقافة الأصدقاء ومعلوماتهم، وأنا أكتب بشكل يومى عن وجوه لا تنسى فى ذاكرة الفن المصرى، تعرَّفت من خلال ما كتبت على أبناء وأحفاد فنانين كبار. دارت البوستات فى لمح البصر، ووصلت إليهم، تبادلتُ حوارات مفيدة جدا فى كل المجالات مع أشخاص من أجيال أصغر، ومع أشخاص يكتبون أمام نافذة تطلّ على ثلوج كندا، بينما أكتب أنا فى درجة حرارة تشبه صهد أفران الخبز، لا شىء يجمع البشر مثل المشاعر الصادقة البسيطة كالأحزان والأفراح، لم يخلُ الأمر من أصدقاء لا يطيقون أن يروا عبارات مخالفة، يزعجهم أن تؤرق كلماتك يقينهم الزائف... كتاب الوجه دليل جديد على أن الإنسان كائن اجتماعى، يبحث عن الآخر حتى وراء الشاشات الصامتة.