إذا كان علينا أن ننظر إلى الحاضر بغضب، فعلينا أيضا أن ننظر إلى نفس الحاضر بخجل! إن بارونات الصحافة هذه الأيام لا يختلفون كثيرا عن باشوات الصحافة أيام زمان أى قبل ثورة 23 يوليو، إنهم الباشوات الذين يتحكّمون ويتاجرون فى أرزاق الصحفيين الذين كانوا يعملون معهم فى الصحافة، وذلك بعدما أصبحت الصحافة المصرية جارية فى حرملك الطغيان فى بلد لم يعد فيه من سلطة سوى سلطة الديكتاتور الواحد، وطغمة من محترفى التآمر والتسلط وحلفائهم الإخوان وبقية دكاكين الإرهاب المعادية للديمقراطية ولنضال الشعب. فى بلد فقد نخبته، ويستعمل فيه الجهل والأمن والدين كأدوات سياسية تغطية لتدير المؤسسات الشعبية وسقوط الدولة، كان من الطبيعى أن تحتل ثقافة الرعاع أغلب الصحف، وساعات الإرسال المرئية والمسموعة، وأن يتم تقسيم الصحفيين إلى تابعين ومعاديين، ويتحوّل شرف المهنة إلى شرف شخصى وكبرياء ومعاناة لدى بعض الصحفيين، فى حين ينقلب لدى البعض الآخر إلى دستور للنفاق والفساد، وتكرس الصفحات لنجوم الاحتراف الدينى ورعاة التدين السطحى، وللأسئلة الفاسدة والأجوبة الأكثر فسادا، وتصبح السطور أداة للفتنة الوطنية وتغطية جاهزة وتبريرا يوميا لتبديد الوطن، ويسقط الفاصل الأمن والصحافة. هكذا قال العارف بالصحافة، جميل عارف، فى مقدمة كتابه الأجمل «أنا وبارونات الصحافة» الذى جمع فيه خلاصة خبراته وتجاربه، وحكايات وأسرار المهنة، ورواها بأسلوب جاذب، وشيّق، وممتع ولاذع، وحكى أسرارا كثيرة لم تكن لتُروى لولاه، ومنها أن نقابة الصحفيين كان مقرّها الرسمى الأول داخل شقة كانت ناديا للقمار! وكانت هذه الشقة تشغَل الدور الأرضى من مبنى قديم يتكوَّن من دورين فى المكان الذى بنيت فيه عمارة «وهبى»، وهى المواجهة للبنك المركزى عند تقاطع شارعَى شريف وقصر النيل، وكانت عبارة عن غرفة واحدة وثلاث صالات كبيرة. وكان بوليس الآداب قد داهم الشقة لكونها وقرا للعب لقمار، وقام بضبط بعض الجرائم المخالفة للقانون فيها، وأراد فؤاد سراج الدين -وكان وزيرا للداخلية والشؤون الاجتماعية فى حكومة الوفد التى جاءت إلى الحكم بعد حادثة 4 فبراير سنة 1942- مجاملة الصحفيين فأمر بمصادرة الشقة، وتسليمها إليهم فى مقر نقابتهم! جميل عارف كان دائما يتخذ خط النار سكنا، فقد حضر الحرب العالمية الثانية، وكان أوَّل صحفى يزور اليمن فى 1947 فى أيام الإمام يحيى بن حميد الدين، مَلك اليمن، وبعدها بعام واحد فقط عمل مراسلا حربيا فى أثناء حرب فلسطين عام 1948، وحين وقع العدوان الثلاثى على بورسعيد فى عام 1956 كان حاضرا بجوار الفدائيين، يرصد ما يجرى على خط النار، وشهد ثورة لبنان فى 1958، وكان شاهدا على الانقلابات العسكرية فى سوريا، وتابع من داخل المدن العراقية ثورات العراق، ورصد ثورة السودان بتفاصيلها، وعاش مع أبطال جيش التحرير الجزائرى داخل الأراضى الجزائرية أثر اندلاع الثورة فى بلد المليون شهيد. لم يذهب إلى دولة إلا إذا قامت بها حرب أو ثورة، لذا عاصر أغلب حركات التحرر فى الوطن العربى وإفريقيا، وقام بجولات صحفية فى 109 دول فى مختلف أنحاء العالم على مدار 50 عاما، واشتهر بتحقيقاته الصحفية التى كتبها عن الدول الإفريقية بعد أن حصلت على استقلالها. وعاصر أحداث الجامعة العربية منذ إنشائها، وعمل لمدة 15 عاما محررا للشؤون العربية، وكان موْضِع ثقة عبد الرحمن عزام باشا أول أمين عام للجامعة، لذا قام بنشر مذكراته السرية التى قرأها الرئيس السادات وتأثّر بها فى أثناء كتابة مذكراته! وكان ترتيبه فى عام 1970 رقم 52 فى أقدمية الصحفيين بجدول نقابة الصحفيين المصرية، لكنه رغم تاريخه المهنى الطويل لم يجلس على مكتبه ينتظر الخبر، بل كان يذهب إليه حيثما كان منذ أن التحق بالعمل الصحفى فى عام 1945، فور تخرجه فى جامعة القاهرة وعمله بمجلة «المصوّر» التابعة إلى «دار الهلال»، لكنه انتقل منها ليعمل فى مجلة «آخر ساعة» مع زميل دراسته الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين الذى كان زميلا له فى ذات الفصل لمدة 5 سنوات كاملة، فى مدرسة السعيدية الثانوية، وشاء القدر أن يلتقيا فى آخر ساعة حين صار بهاء رئيسا لتحريرها، وعمل هو نائبا له، وظلّ فى موقعه لمدة 19 عاما، ولم يتركه إلا عندما ذهب ليعمل مديرا لتحرير مجلة «أكتوبر»، وحين خرج على المعاش صار كاتبا متفرّغا فى مؤسسة «روزاليوسف». لم ينل عارف الشهرة التى يستحقها وتتناسب مع حجم عطائه، لكنْ فارق هائل بين أن تكون صحفيا كبيرا، وأن تكون صحفيا مشهورا. فالشهرة ليست المعيار الأول لقيمة الصحفى وقامته، فبعض مشاهير الصحافة ليسوا كبارا فى المهنة، وبعضهم أقرب إلى مندوب العلاقات العامة الذى يعرف الجميع ويعرفه الجميع فقط لأنه يظهر فى كل القنوات فى مختلف الأوقات، ولأن آراءه ترضى عنها السلطة، وتُرضى القارئ والمشاهد والمُعلن! بعضهم يتم التعامل معه وتقديمه باعتباره مفكرا كبيرا، رغم أنه بلا أى إنتاج فكرى، وبعضهم يتم التعامل معه باعتباره خبيرا ومحللا استراتيجيا رغم أنه لم يثبت أنه نجح فى تحليل أى ظاهرة أو تقديم أى دراسة حقيقية، وبعضهم إنتاجه الأدبى ضعيف، لكن يتم تصديره باعتباره أديبا كبيرا. لكن بالطبع هناك مشاهير يملكون قدرات خاصة، ومواهب عظيمة، وأفكارا نبيلة، وحضورا طاغيا، لكن الأكثر شهرة ليس من الضرورى أن يكون الأكثر كفاءة ومهارة وموهبة. جميل عارف كان من هؤلاء الذين لم ينالوا حظهم من الشهرة، لكن لا يجوز أن لا تعرفه، ولا يجوز أن لا تعرفه أجيال من الصحفيين الشباب الذين لم يقرأ بعضهم -مع الأسف- تاريخ المهنة، ولم يعرف الرعيل الأول من الآباء المؤسسين لها والمدافعين عنها الذين دفعوا فى المهنة أعمارهم، دون أن يحصدوا آى مكاسب، رغم أنه كان صديقا لعمالقة الفكر والأدب والصحافة، وكان صديقا للأستاذ هيكل منذ أن تعرّف عليه فى أواخر الأربعينيات، ويصف هيكل علاقته ب«عارف» قائلا: «جميل عارف رفيق أيام خوال تعود إلى أواخر الأربعينيات، حينما كنا وسط السحابات الوردية للصبا جيلا جديدا خطفت أحلامه مهنة البحث عن المتاعب فأعطاها نفسه، وقبلت بدورها عطاءه، وأخذت عمره كاملا». صداقة هيكل وعارف جعلت هيكل يُقدّم كتابه «أنا وبارونات الصحافة» رغم أنه كان يحمل نقدا لاذعا وحادا لعدد كبير من الصحفيين والساسة، لذا حين سأل عارف، هيكل عن رأيه فى الكتاب قال الأستاذ: «لا أنا مختلف مع الكتاب.. ولا أنا متفق معه»!