في السابع والعشرين من شهر ابريل الماضي مرت 27 عاماً علي رحيل أستاذنا الجليل الكاتب والمؤرخ والمفكر محمد صبيح مؤسس الصحافة التعاونية والفلاحية، والذي أثري الحياة الصحفية والثقافية بالعديد من الصحف والكتب والمجلات. رحيل الرجل العملاق- الذي ولد عام 1910- عن عالمنا في 27 إبريل 1983. أي أنه قد عاش 73 عاماً. عاش رجلاً حقيقياً وصحفياً وكاتباً ومناضلاً من أجل حرية الوطن. أذكر أنني عرفته حين كنت طالبا بقسم الصحافة بآداب القاهرة- قبل انشاء كلية الإعلام. وكان يحاضر الطلاب بقسم الصحافة . كان ذلك عام 1963. وجدته رجلاً بشوشاً. لا يتجهم. ولكنه جاد. كان يدرس لنا مادة التحرير الصحفي «بشقها العملي» وكنا نلتف حوله ونسمع منه ونحاوره ونحن لم نضع بعد خطواتنا الأولي علي أعتاب صاحبة الجلالة وفي العام التالي وجدتني أنجذب إلي شخصيته الودودة والبسيطة.. وأشارك في التدريب الصحفي بدار التعاون التي أنشأها قبل خمس سنوات بإصدار المجلة الزراعية عام 1958. وبعدها جريدة التعاون في 23 يوليو 1959. روي لي صديقي الفنان رسام الكاريكاتير محمد حاكم أنه في عقب إحدي هذه المحاضرات اصطحبه محمد صبيح في سيارته إلي مبني دار التعاون بجاردن سيتي ودعاه أن يكون أحد الرسامين الذين يعملون بها.. والمغزي الوحيد لذلك أن - صبيح- كان يسعي إلي الشباب ليعملوا معه في الدار الصحفية الوليدة. في جريدة الأساس نفس الشيء جري حين كان محمد صبيح يصدر جريدة «الأساس لسان حال الهيئة السعدية» - كصحفي محترف ولم ينضم للحزب. وذلك بعد الخلاف الذي وقع بينه وبين أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة. فقد عمل مع صبيح في «الأساس» الكاتب الكبير أنيس منصور- أمد الله في عمره والراحلين حمدي فؤاد، جميل عارف، وكلهم من أعلام الصحافة المصرية. قصة كفاح والذي يتابع قصة كفاح هذا الرجل العصامي. يجد أنه قد ولد في 5 ديسمبر 1910 بمحافظة قنا وحين جاء إلي القاهرة من صعيد مصر ظل يدرس بقسم اللغة العربية بكلية الآداب حتي حصل علي شهادة ليسانس الآداب سنة 1934. وفي تلك الحقبة كان العمل الصحفي حلم الشباب الذي يريد أن ينخرط ويشارك في العمل الوطني. ولذا كان طبيعياً أن يشترك مع أحمد حسين في حزب «مصر الفتاة» وفي صحفها العديدة: «مصر الفتاة، الصرخة» وعندما ترك حزب «مصر الفتاة» منتصف الأربعينات اشترك مع جلال الدين الحمامصي في إصدار صحيفة الأسبوع. وبعد خها أصدر مجلة «نداء الحرية». وكما يروي الراحل فتحي رزق في كتابه 75 نجماً في بلاط صاحبة الجلالة أن صديق عمره الفنان عبدالسلام الشريف شاركه في رسم وإخراج هذه المجلة التي كانت حدثاً في وقتها. وقد اشتغل كاتبا في جريدة «أخباراليوم» قبل أن يتفرغ لإصدار جريدة «الأساس» التي كان يصدرها الحزب السعدي. كتاب الشهر كان محمد صبيح أول من أصدر كتاب الشهر في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي وكان محمد صبيح الذي أصدر أكثر من خمسين كتاباً عن الإسلام وعن الحركة الوطنية والقومية العربية وكفاح الشعب المصري وعن تاريخ اليهود منذ أيام النبي موسي. وكذا تحقيقه لكتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة- وكذا في التراجم عن شخصيات عالمية مثل موسوليني وديفاليرا وطارق بن زياد، شاه إيران، تشرشل وصلاح الدين الأيوبي. الباب المفتوح ويروي الكاتب الصحفي الراحل جميل عارف في كتابه أنا وبارونات الصحافة- صدر عام 1993 في فصل خاص عن محمد صبيح أنه كان من الصحفيين القلائل الذين عرفهم جمال عبدالناصر قبل الثورة حين كان صبيح سكرتيراً عاماً لحزب «مصر الفتاة» - وكان عبدالناصر عضواً بهذا الحزب بدائرة باب الشعرية في مطلع شبابه. وطبقاً لرواية جميل عارف نقلاً عن كتاب صدر لدزموند ستيوارت باسم «مصر الفتاة» قال فيه إن جمال عبدالناصر قال إنني في تلك الأيام لم أكن استطيع أن أدخل علي أحمد حسين رئيس الحزب في حجرته ولكن محمد صبيح السكرتير العام للحزب كان دائماً يفتح لنا الباب لنجلس معه. في السجون المصرية تعرض محمد صبيح- في عمله الصحفي للسجن أكثر من 10 مرات بسبب جرأته وشجاعته في فترة الحرب العالمية الثانية 1939- 1945. فقد اعتقل في سجن الأجانب ومعتقل الزيتون ومعتقل ماقوسة بالمنيا. كما تعرض لمواجهة محكمة الجنايات 30 مرة أيضاً بسبب كتاباته الجريئة. وكانت التهمة دائماً تتعلق بحرية الرأي وأحيانا العيب في الذات الملكية. كان أنور السادات أحد رفاقه في السجن وجمعت بينهما صلة حميمية إذ ان محمد صبيح أخفاه في الشقة الصغيرة التي كان يسكنها في العباسية حين كان مطاردا من البوليس السياسي. ما بعد ثورة يوليو وكما يروي جميل عارف في كتابه : أنا وبارونات الصحافة أن محمد صبيح تعرض للاعتقال لمدة 100 يوم بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952. ولما كان من الصحفيين الشرفاء ولا يملك سوي راتبه- فقد ذهب بعد الإفراج عنه إلي أحمد أبو الفتح صاحب جريدة «المصري» وطلب إليه أن يعمل معه كاتبا صحفيا غير أن أبا الفتوح قال له: أنا موافق وأرحب بعملك معي في جريدة «المصري» بشرط أن تأتي لي بموافقة من جمال عبدالناصر لتعيينك بالجريدة. وذهب محمد صبيح إلي المهندس سيد مرعي الذي كان عضوا بالهيئة السعدية وعرض عليه أن يعمل معه- مستشارا- بالإصلاح الزراعي ووافق سيد مرعي- بعد أن عرض الأمر علي جمال عبدالناصر الذي قال له: محمد صبيح مش هتلاقي أحسن منه. ومن حجرة بالإصلاح الزراعي في مطلع الخمسينات أصدر صبيح عديدا من الكتب والنشرات باللغة العربية والإنجليزية وأصدر كتبا عديدة عن الفلاحين وأسرة محمد علي مما جعل جمال عبدالناصر في أحد اجتماعات مجلس الوزراء يقول: شوفوا صبيح كفرد عمل إيه.. واحنا عندنا مصلحة الاستعلامات ووزارة للارشاد ومش قادرين نعمل اللي عمله صبيح. الأحداث.. تتوالي لقد تعاقبت الأحداث. إذ أن محمد صبيح من هذه الحجرة الصغيرة بالإصلاح الزراعي خطط لإنشاء صحافة التعاون وصحافة الفلاحين وعبر عن حقبة بأكملها مزدهرة هي حقبة التحولات الاجتماعية الكبري التي قادها جمال عبدالناصر فأنشأ «المجلة الزراعية» سنة 1958، «التعاون» سنة 1959 وضم إليها عديداً من التيارات الوطنية المختلفة- من اليسار الماركسي إلي تيار الثورة والتيار الليبرالي وقيادات الحركة التعاونية والفلاحية. وظل يصدر العديد من الصحف في الستينات والسبعينات.. وبينها جريدة «الحرية» التي صدر منها عدد واحد فقط في عهد الرئيس السادات. وهي الجريدة التي نفذت جميع النسخ المطبوعة وكانت مشروعاً ضخماً لتطوير صحافة دار التعاون. غير أن البيروقراطية المصرية أوقفت هذا المشروع.. وبعدها تم ابعاد محمد صبيح عن دار التعاون سنة 1976. وبعد من خلال «القاهرة» أدعو نقابة الصحفيين إلي أن تنظم احتفالية ضخمة عن الكاتب الكبير محمد صبيح.. هذا العام الذي يواكب الذكري المئوية.. لمولده.