قبل أيام قلائل مرّت ذكرى عيد ميلاد الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت فرصة لكى تعيد الإذاعة المصرية بعضا من الأغانى التى تغنّت باسمه أو ارتبطت بثورة يوليو، وعدد منها حفر لها مكانة خاصة فى مشاعرنا سواء من عاش تلك السنوات أو من وُلد بعدها. الإنسان لا شعوريا عندما يشاهد فيلما أبيض وأسود يستعيد مفردات الزمن، فلن يسأل أحد مثلا وهو يشاهد فيلما فى السبعينيات من القرن الماضى: لماذا لم يستخدم البطل الموبايل لإنقاذ حبيبته؟! كنت حريصا أن أعطى أذنى وعقلى للكلمة واللحن، ولاحظت أن كثيرا مما استمعت إليه يُعوِزه الصدق لأن المساحة الزمنية المتاحة لعرض هذه الأغنيات اتسعت على غير المعتاد فاضطُرّ القائمون على الخريطة الغنائية إلى البحث عن المجهول وغير المتداوَل من الأغنيات الأخرى الوطنية فكانت صدمتى كبيرة. هل كانت الأغانى التى تتغنى باسمه ترضى عبد الناصر؟ أتذكر أننى سألت الإذاعى الكبير الراحل جلال معوض، وكان الأقرب إليه، فقال لى إنه كان يضجّ من كثرة هذه الأغانى، ولهذا فى أحد الاحتفالات الوطنية لا أتذكر تحديدا إذا كانت السد العالى أم الثورة، كانت التنبيهات صارمة على الجميع، وهى «إياكم والغناء باسم عبد الناصر». التزمت نجاة ومحرم فؤاد وشادية ثم -وآه من ثم- جاء دور المطرب الكبير محمد الكحلاوى الذى كان كعادته يردد عددا من أغانيه الدينية والبدوية، وفجأة غيّر فى كلمات إحدى أغنياته فأضاف اسم عبد الناصر، ومن بعدها فقد جلال معوض السيطرة وانطلق الجميع يغنّون باسم الزعيم! لا أتشكك بالتأكيد فى رواية الأستاذ الإذاعى الراحل الكبير ولكنى فقط أتوقف أمام رغبة الزعيم فى الغناء باسمه.. لا أتصور أن عبد الناصر كانت لديه اعتراضات بل المؤكد أنه كان سعيدا بما يجرى وكان الكبار يتسابقون فى التغنى باسمه مثلا أم كلثوم وهى تغنى على مدى ساعة كاملة «حققنا الآمال.. برياستك يا جمال.. بعد الصبر ما طال».. وتعيد وتزيد عشرات المرات فى هذه الكلمات الركيكة، ونكتشف أن الذى كتبها هو زجال مصر الأول بيرم التونسى، والذى لحنها هو عملاق الموسيقى الشرقية رياض السنباطى، فما الشاعرية فى «حققنا الآمال.. برياستك يا جمال»؟ أو عندما يقول الشاعر عبد الفتاح مصطفى -وهو أحد كبار شعراء الأغنية المصرية- «الزعيم والثورة وفوا بالعهود.. لسه دور الشعب يوفى بالوعود». إنه يبرئ ساحة رجل واحد هو الزعيم ويدين شعبا بأكمله. بالتأكيد ليست كل الأغنيات التى ردد فيها الشعراء اسم عبد الناصر كانت مجرد هراء وخوف من السلطة.. لا يمكن أن أصدق مثلا أن أغنية «إحنا الشعب إحنا الشعب.. اخترناك من قلب الشعب» لصلاح جاهين وكمال الطويل، ولا أغنية «يا جمال يا حبيب الملايين» لإسماعيل الحبروك والطويل، ولا أحمد شفيق كامل وهو يقول «ضربة كانت من معلم.. خلى الاستعمار يسلّم»... لا أصدق أنها أغنيات كاذبة.. لدينا بالتأكيد أغنيات عديدة عبّرت بصدق عن المشاعر لم تكن تحت تأثير الخوف من عبد الناصر، ولكن لو عدت إلى أرشيف الإذاعة سوف تكتشف أن البعض كان يبدأ كتابة اسم ناصر أو جمال ويبحث عن أى وزن وقافية ويملؤها بمجرد كلمات.. الأهم أن الرئيس نفسه لم يعترض على هذا الإسراف ربما فى لحظة قال «كفاية»، حدث هذا ربما مرة أو مرات، ولكن الرئيس أسعدته هذه الأغانى التى تعنى أن الكل يذوب فى واحد. عندما سألت الموسيقار الكبير كمال الطويل، وهو على الأقل صاحب 90% مما ردده عبد الحليم حافظ من أغنيات وطنية واكبت الثورة، أجابنى بأنه لم يشعر ولو لحظة واحدة أنه يلحن لجمال عبد الناصر ولكن للوطن.. انتهت كلمات الطويل إلا أننى أضيف أن هناك من غنى بقناعة، وهناك من غنى لمسايرة الزفة، وما تبقى فقط هو تلك الأغنيات التى قُدمت بإحساس، وبالتأكيد تحتلّ أغنيات الطويل وجاهين وحليم النصيب الأكبر منها.. حتى تلك الأغنيات التى ربطت بتعسف بين حدود الوطن وشخص الرئيس! ونحن نستعيد هذه الأيام أغنيات العيد الأول لثورة 25 يناير، لا يزال الأمر قائما.. كثير من الكذب قليل من الصدق.