نستكمل معا لمحات من السيرة العطرة والمؤلمة، فى آن واحد، لشهداء مصر فى حقبة الاضطهاد الرهيب والمقاومة السلمية للمصريين معتنقى المسيحية فى وجه طغاة الرومان.. أولئك الأبطال الذين حصرنا سيرتهم فى كتب الدين المسيحى، بينما مكانهم الطبيعى هو كتب التربية الوطنية والتاريخ المصرى.. من اللافت إلى النظر أن قائمة الشرف قد احتوت إلى جانب الشباب والنساء والكهول عددا من الفتية والصبيان، منهم على سبيل المثال لا الحصر: 1- بيفام: كان عمره عشر سنوات عندما استُشهد ابن أخته مار يوحنا، وحضر واقعة استشهاده فأخذ يبكى، ثم ذهب إلى الوالى أريانوس فى مدينة أسيوط حيث جاهر بإيمانه، فغضب أريانوس وأمر بتعذيبه، ثم قُطعت رأسه بالسيف، وما زال مدفونا مع الشهيد مار يوحنا بالكنيسة بأم القصور بمحافظة أسيوط. 2- الفتى شنوسى: كان عمره 12 سنة من بلدة بلكيم (مركز السنطة حاليا)، وقد آمن وجاهر بإيمانه، فتعرض لتعذيب شديد، ثم انتهى به المطاف عند أريانوس والى أنصنا الذى أكمل تعذيبه، لكن شنوسى لم يرتدّ، فأمر بقطع رأسه. 3- أبانوب النهيسى: كان عمره 12 سنة يتيم الأبوين من بلدة نهيسة بجوار سمنود.. جاهَر بإيمانه، وثبُت عليه رغم تعرضه لتعذيب لا يُطاق، ثم أمر أرمانيوس والى الإسكندرية بقطع رأسه. 4- الصبى شورة: كان راعيا للغنم من إحدى قرى مدينة أخميم بمحافظة سوهاج، ولما وصل أريانوس الرهيب إلى أخميم أرسل جنوده إلى كل قراها ليحضروا له المسيحيين لتنفيذ أوامر الطاغية دقلديانوس فيهم، ومرّ به خمسةٌ منهم اعترف لهم بمسيحيته فاغتصبوا خروفين من غنمه، وحاولوا القبض عليه، فضربهم بالعصا واستردّ خروفيه وهرب، وانتهى الأمر بالقبض عليه وتعذيبه ثم إعدامه. المذابح الجماعية: وإلى جانب آلاف النماذج الفردية فقد شهدت هذه الحقبة عديدا من المذابح الجماعية: 1- الكتيبة الطيبية: سُميّت كذلك لأن مقرها كان مدينة طيبة (الأقصر)، لكن المذبحة وقعت لهم فى أوروبا عندما أرسلها ديقلديانوس لنجدة إمبراطور الغرب فى مواجهة تمردٍ فى فرنسا، وبوصولها إلى إيطاليا أرسل الإمبراطور قسما منها إلى حدود فرنسا ليرابط هناك، وقسما إلى الحدود السويسرية ليكون جاهزا للطوارئ، وقبل المعركة رفض رجال الكتيبة الطيبية ممارسة الطقوس الوثنية المعتادة، معلنين مسيحيتهم، فأمر الإمبراطور بقطع رؤوس عُشر الجنود بعد جلدهم كإنذار للباقين، لكنّ الباقين رفضوا أيضا فكرر المذبحة مع عُشر الباقين، فلما استمر الباقون على موقفهم أمر جنوده بإعمال سيوفهم فى رقاب الضباط والجنود المصريين فتمت إبادة الكتيبة عن آخرها (6666 فردا)، واستشهدوا فى أماكن مختلفة خارج الوطن، فبعضهم فى مدن شمال إيطاليا، والبعض فى سويسرا، والبعض فى فرنسا. 2- مذبحة إسنا: بعد صدور مراسيم الطاغية ديقلديانوس لاضطهاد المسيحيين، قام أريانوس الرهيب والى إنصنا بعدة جولات فى الصعيد للإشراف بنفسه على تنفيذ المراسيم، وفى إحدى المرات وجد المدينة شبه خاوية، إذ كان أهلها يتعبدون فى دير الأنبا إسحاق خلف أسقفهم الأنبا أمونيوس، فذهب إليهم وأعمل جنوده القتل فى الآلاف منهم، وعلى رأسهم الأسقف أمونيوس. 3- مذبحة أخميم: تصادف أن وصل أريانوس فى جولته الانتقامية إلى أخميم ليلة عيد الميلاد، ووجد أهلها منشغلين عن استقباله بالاحتفال خلف أسقفهم الأنبا أباديون، فذهب وجنوده غاضبين إلى الكنيسة، وكرروا ما ارتكبوه فى إسنا، واستشهد الآلاف، حتى إن الدماء جرت من الكنيسة إلى أزقة المدينة. 4- مذبحة إنصنا: وبديهى أن أريانوس والى إنصنا الذى ارتكب المذابح الكبرى فى إسنا وأخميم وغيرهما، أن يكون قد بدأ بمسيحيى بلدة إنصنا، حيث قتل الأنبا يوليانوس ومعه 5 آلاف راهب كانوا ساكنين فى الصحراء القريبة من المدينة. النهايات الطبيعية: وكما يحدث دائما، يذوب الطغاة والمحتلون فى هذا الوطن الفريد، ويبتلعهم الشعب العبقرى.. حملت النهايات توبة الجلادين واهتزاز قلوبهم ويقينهم بعد ما عايشوه من صلابة المصريين فى وجه أهوالهم، بل واستشهاد هؤلاء الجلادين بعد توبتهم، وكان على رأس هؤلاء الاسم الأكثر بشاعة وشهرة فى التعذيب، أريانوس والى أنصنا، إذ لم يوجد حاكم أو والٍ فى الإمبراطورية الرومانية كلها يدانيه فى هذا المجال، حيث اخترع وابتكر أدوات وأساليب وحشية للتعذيب. ختام: مضطر لقطع هذه السلسلة لملاحقة التطورات الداخلية والخارجية المتعاقبة.. كانت هذه محاولة متواضعة للتذكير ببعض شهدائنا المنسيين، بدأتها بهذه الإضاءة السريعة لحقبة ثرية من تاريخنا، على أمل أن تمضى بنا لشهداء آخرين فى فترات أخرى كمقاومة الحملة الفرنسية أو طغيان محمد على أو الثورة العرابية، إلى أن نصل إلى حروب 48 و56 واليمن و67 والاستنزاف و73، وما بينها.. وأعترف بأننى لستُ متخصصا ولا باحثا، لكننى مجرد قارئ يدقّ الناقوس ويفسح المجال لمن هم أقدر منه، ولا يفوتنى فى هذا المجال أن أتوجَّه بالشكر إلى كل مَن ساعدنى فى الحصول على هذه الكنوز المعرفية الثمينة، وعلى وجه الخصوص الصديق العزيز الكاتب والسيناريست مجدى صابر.