ما زلنا مع هذه الفترة الخصبة من التاريخ المصرى، التى ضرب فيها المصريون أروع المُثُل فى الدفاع عن عقيدتهم وبذلوا دماءهم الغالية رخيصةً فى سبيل ذلك.. وإذا كان العنوان الأكبر لهذه الفترة هو عصر دقلديانوس، لدرجة أن بدء ولايته (سنة 284 ميلادية) اعتُبرت بدايةً للتقويم القبطى (نحن فى سنة 1730 قبطية)، إلا أن المسألة بدأت قبل ذلك بعدة قرون مع دخول المسيحية مصر، واصطبغت بالصفات العامة للمصريين، واتسمت بملامح المقاومة السلمية (أشبه بمقاومة المسلمين الأوائل فى المرحلة المكّية عندما كانوا يُخفون إسلامهم ويتحملون الأذى للحفاظ على دينهم)، وأعتقد أن مقاومة المصريين المسيحيين فى هذا العصر قد سبقت نموذج غاندى للمقاومة السلمية بنحو ألفى عام. كان المصريون يُخفون مسيحيتهم ما استطاعوا إلا أن كثيرين منهم كانوا يُجاهرون بها إذا اضطروا إلى ممارسة الطقوس الوثنية. ويرصد التاريخ العديد من أنواع التعذيب الجسدى والنفسى والمعنوى التى كانوا يتعرضون لها فى الطريق إلى الاستشهاد، من بينها: الحرق/ الصَلْب/ الإلقاء للوحوش المُفترِسة/ الاستعباد للعمل فى المناجم وهم مسلسلون/ النفى إلى جزيرةٍ موحشة/ الجَلْد بالسِياط/ الضرب بالعصى/ الإلقاء فى النيران/ الحبس فى السجون/ الإلقاء فى بُحيرات جليدية/ السلخ/ نشر الجسم/ صب القار المغلى/ بتر الأعضاء/ الشنق/ مرور العجلات المُسنَّنة فوق الجسم/ السحل/ العصر بالهنبازين/ تشويه الأجساد/ دفن الإنسان حيًّا/ العذابات المُخجِلة (هكذا ذُكرت تعففا)/ بقر بطون الحوامِل/ شطر الجسم نصفين بشجرتين مُتقابلتين. وقد كان للمرأة المصرية نصيبٌ مُشرّفٌ فى سجّل المقاومة والاستشهاد، يقف أمامه الإنسان مشدوهًا من القدرة على البذل والتحمّل والتضحية.. وقد أسماهن الأنبا الراحل يؤانس مجموعةً منهن «شهداء العفة»، إذ كُنّ يُفضّلن تسليم حياتهن للموت على تسليم أجسادهن للنجاسة.. ومن أمثلة الشهيدات المصريات: 1 – الشهيدة بوتامينا: التى كانت جاريةً وعجز سيدها أن يجعلها ترضخ لشهواته، فاتهمها أمام الوالى الطاغية أكيلا بأنها مسيحية (وقد كانت كذلك)، ورشاه لكى يضاعف من تعذيبها لعلها ترضخ له وإلا حُكم عليها بالموت.. وفعلاً تم تعذيبها تعذيبا فوق طاقة البشر فلم ترتد عن إيمانها، فهددها الوالى الطاغية أكيلا بتسليمها إلى المصارعين لكى يرتكبوا معها الفاحشة وانتظر منها الرد فأجابته إجابةً اعتبرها خارجةً عن حدود اللياقة، فجُنّ جنونه وأصدر حكمه فورا بإعدامها بصبّ القار المغلى على أعضائها.. فصاحت قائلةً للوالى «أستحلفك برأس الإمبراطور الذى تخشاه أن لا تجعلهم يجردوننى من ثيابى.. بل دعنى أنزل إلى القار قليلاً قليلاً».. وبعد أيامٍ من استشهادها آمن الجندى باسيليدس الذى ساقها إلى الموت فقُطع رأسه بالسيف ولحق بها. 2 – الشهيدة ثيئودورة: التى استُشهدت فى الإسكندرية وهى فى السابعة عشرة من عمرها.. كانت سليلة أسرةٍ نبيلة وعلى جانبٍ كبيرٍ من الجمال.. فأمرها الوالى أن تُبخّر للأوثان فرفضت فعاقبها بإيداعها أحد بيوت الدعارة.. فكان أول من دخل عليها مصرى مؤمنٌ لا تعرفه اسمه ديديموس، دخل عليها متخفيا فى زى جندى.. واتفقا على استبدال الملابس.. وخرجت ثيئودورة متخفيةً فى زى الجندية دون أن يفطن إليها أحد.. وبقى ديديموس فى الحجرة إلى أن اكتُشف أمره، وسيق للوالى وحُكم عليه بالإعدام.. وفى طريقه إلى مكان تنفيذ الإعدام رأته ثيئودورة وعرفت قصته، فشقّت الجموع وأمسكت به وقالت له «إنى لا أقبل أن تأخذ مكانى فى الاستشهاد.. لقد وافقت فقط أن تحفظ عفتّى».. فنال كل منهما الشهادة معا. 3 – الشهيدة الأم دولاجى وأبناؤها: فى عهد الطاغية دقلديانوس، وبينما أريانوس والى أنصنا يتجول فى بلاد الصعيد يحاول الكشف عن المصريين الذين يُخفون مسيحيتهم، قابل فى مدينة إسنا أربعةً من الصبية الأشقاء (سوروس، وهرمان، وأبانوفا، وشنطاس) يسوقون دابَّة تحمِل بطيخًا من الحقل، فاستوقفهُم وأراد أن يختبِر حقيقتهم فأمرهُم أن يسجُدوا للأوثان، فرفض الصِبية بشدة، فألقى القبض عليهم. وسُرعان ما وصل الخبر إلى أُمهم الشُجاعة «دُولاجى»، فأسرعت من بيتها إلى الحقل حيث أولادها الأربعة يقفون فى حضرِة الوالى.. ووقفت أمام الوالى تحثُ أبناءها على الثبات على الإيمان.. فامتلأ أريانوس غيظا وأمر بحبسهم جميعا.. وفى الصباح استدعاهم وحاول معهم مرةً أخرى، فإذا بالأم وأبنائها يصرخون معلنين إيمانهم وأنهم لن يسجدوا للأصنام، فأمر الوالى بذبحهم جميعا.. وإمعانا فى القسوة، بدأ بذبح أبنائها على ركبتيها واحدا تلو الآخر وهى تُصلى ثم قُطعت رأس الأم الشهيدة. وللحديث بقيةٌ بإذن الله.