يبدو أن التليفزيون قد عاد إلى سابق أخطائه القديمة وكأن ثورة لم تقم! ففى أول أيام العيد كان الأفق مُلَغماً بأخبار ذات أهمية شديدة مما يهم الرأى العام أن يتابعها أولاً بأول، ولكن نشرة الأخبار تجاهلت كل ما ينتظره جمهور المشاهدين بلهفة شديدة وبدأت بأن الرئيس السيسى صلى العيد فى مسجد كذا، وأخذت فى إضافة تفاصيل من عينة أنه كان فى صحبته فلان وفلان، وعرضت نشرة الأخبار الصباحية جزءاً لا بأس به من خطبة العيد بصوت الإمام وصورته، وظل الخبر بكل هذه التفاصيل يتصدر النشرات التالية طوال اليوم، مع متعلقاته المستجَدة، مثل مظاهر العيد وخروج الناس إلى المتنزهات، مع استطلاع متكرر منذ ولد التليفزيون عملاقاً قبل خمسين عاماً، بلا إضافة كلمة واحدة، عن انطباعات الناس فى العيد، وفرحتهم وسرورهم وسعادتهم وغبطتهم وهناءتهم، كلام ممل معاد، كان من الأوفر كثيراً أن يُعرَض من أرشيف الأعوام السابقة، ثم كان منطقياً أن تتوالى الأخبارُ ذات الصلة بنفس الموضوع والخاصة بمظاهر العيد حول العالم، بلقطات من الدول العربية ومن أندونيسيا وباكستان وبنجلاديش والهند والسند! وكان الجمهور يتقلب من التوتر والغيظ يريد أن يعرف أخبار المصريين العاملين فى ليبيا بعد أن أشيع أن محال سكنهم تعرضت للقصف، خاصة أن الخبر أُذيع على قنوات أخرى، كما ظلت مواقع الإنترنت تجتهد فى عدد الإصابات! كما كانت هنالك أخبار غزة، والصاروخ الذى انفجر فى أحد المستشفيات، وهو الخبر الذى تصدر تليفزيونات العالم ما عدا التليفزيون المصرى، وكانت غزة قد فرضت نفسها على اهتمام الجماهير منذ بدأ العدوان الإسرائيلى الهمجى، بل لقد أثارت الحزن لدى كثيرين وبددت أية فرحة بيوم العيد! كما كانت هناك أخبار داعش فى العراق التى تقتل الأبرياء العزل بالجملة يومياً وتتقدم بسرعة مرعبة ويسبقها السكان بالفرار قبل قدومها! بل إن الجماهير انتظرت حتى اليوم التالى لتعرف من الجرائد أن اشتباكات وقعت بين جماعة الإخوان وبين أعداد من المواطنين والشرطة فى عدد من المحافظات، وأنها أسفرت عن إصابة عدد من الافراد! بل إن النشرات لم تولِ اهتماماً بخبر متى يعود العمل بالتوقيت الصيفى، وكان السؤال يتردد بين الناس هل يبدأ من أول يوم للعيد أم بعد العيد، ومتى بالضبط؟ وكل هذه أخبار مهمة كان من المتوقع أن تفرض نفسها على أولويات ما يجب على نشرات الأخبار متابعته، ولكن كان لمسؤولى التليفزيون رأى آخر! المؤكد أن التبرير جاهز على لسانهم بنفى أى مسعى منهم لتملق الرئيس، وطبعاً لم يكن هذا يدور فى ذهنهم لأنهم ليسوا من هذا النوع، بل أنهم كانوا يسعون إلى بث روح الطمأنينة فى المشاهدين وحثهم على المشاركة فى الاحتفالات فى الأماكن العامة حيث الأمن والأمان والزهور والربيع والجو البديع! فإذا كان هذا هو هدفهم الحقيقى فهم، للأسف الشديد، فشلوا فشلاً ذريعاً، لأن قطاعات عريضة من الجماهير التى انتخبت السيسى عن اقتناع بدوره فى هذه المرحلة هم المهمومون بالشأن العام، وهم الذين حوّلوا مؤشر التليفزيون للقنوات الأخرى، وتصفحوا مواقع الإنترنت المختلفة، لمتابعة ما قصّر التليفزيون عن توفيره لهم! وإذا كان المسؤولون يشككون فى صحة هذا فليتهم يجرون استطلاعاً بين عينة من المشاهدين ليعرفوا حقيقة الرأى فى متابعتهم للأحداث فى ذلك اليوم. كيف نسى مسؤولو التليفزيون سريعاً أن هذا الأسلوب بالضبط كان من أهم أسباب وأعراض الفشل المدوى للإعلام فى عهد مبارك، عندما كان ترتيب الأخبار يجرى وفق بروتوكول المناصب، حتى أنها لم تكن وفق التراتب الرسمى وإنما حسب الحالة المباركية التى فرضت كابوسها على البلاد، فكانت البداية بأخبار مبارك، حتى المقابلات الروتينية التى كان يُكتفى بالقول إنه تمت فيها مناقشة «تطورات الأوضاع»، ثم تأتى أخبار مطوَّلة عن قرينة الرئيس، وكان لها نشاطات شبه يومية خاصة فى سنواتهم الأخيرة، ثم أخبار جمال مبارك، ثم يأتى بعد ذلك السيد صفوت الشريف، ويليه أخبار رئيس الوزراء، ثم نتف لبعض الوزراء والمحافظين المقربين، وأما أخبار كوارث الداخل والخارج فكان يُعرَض ما تيسر منها باختصار، بما يتيح للإعلانات وقتاً مناسباً! وقد أتت هذه الطريقة بنتائج عكسية تماماً لما كان يُخطط له، فقد ضجر الناس ولم يعد فى طاقتهم تحمل المزيد، فى حين كان يظن عباقرة الإعلام المباركيون أنهم يزرعون حب مبارك وآله فى قلوب الشعب! هذا الاتجاه ينبئ عن عقلية وأفكار مسؤولى التليفزيون، ومن المُرَجَّح، إذا استمروا على كراسيهم، أن يقفزوا سريعاً إلى مرحلة أن كل شيئ فى بر مصر يجرى بتوجيهات الرئيس السيسى، وكأنه لم يكن لعبارة «توجيهات مبارك» آثار سلبية شاركت بدور كبير فى إثارة الغضب الشعبى! إن حقَ الشعب فى معرفة الأخبار حقٌ لا مجادلةَ فيه فى الدولة الحديثة التى قامت ثورة يناير من أجل تأسيس أوضاعها، وكان تجاهل الإخوان لهذه الحقيقة السافرة من أهم أسباب انهيار نظامهم، لأنهم كانوا أسرى أفكارهم التى تعيش فى الماضى وتنظيمهم الذى لا يعرف إلا كتمان الحقيقة حتى عن كوادره وأعضائه! والمشكلة الكبرى، التى يجب أن يلتفت إليها السيسى ورجاله، هى أن الإعلام الحر، القائم على حرية تدفق الأخبار والمعلومات، وعلى تبنى واعتماد الشفافية، وعلى إتاحة أوسع المجالات لمناقشة، هو خير ضمان لاستقرار النظام وللدفع بخططه إلى الأمام، مع ضرورة الانتباه إلى أنه لن ينجح فى هذا من أفنوا عمرهم فى العمل بعكس هذا!