يكشف التصعيد المتبادل الذى تلا حادثة خطف ثلاثة مراهقين إسرائيليين فى الضفة الغربية فى 12 يونيو الماضى، وقتلهم لاحقا، من خلال حملة اعتقالات إسرائيلية لنشطاء «حماس» فى الضفة الغربية، وزيادة الحركة إطلاق صواريخها محدودة التأثير من غزة إلى داخل إسرائيل، أن كلا من حكومة بنيامين نتنياهو فى إسرائيل وقيادات «حماس»، استهدفا عن قصد الهروب من أزمات إخفاق وعجز فى مواجهة تحولات إقليمية كبرى إلى مواجهة عسكرية واسعة النطاق فى غزة. سعت حكومة نتنياهو من عدوانها إلى تكريس معادلة الانقسام الفلسطينى مجددا، ودفع «حماس» باتجاه أكثر تشددا. كما استهدفت فرض معادلة ردع فى مواجهة تهديدات متصاعدة إقليميا نتيجة للانفراجة الغربية-الإيرانية، من جهة، وصعود تنظيمات جهادية شديدة التطرف فى سوريا والعراق وتأسيسها «إمارات» فعلية على الأرض، من جهة أخرى. كان خيار الهروب إلى غزة الطرف الأضعف فى معادلة التهديدات الإقليمية، هو خيار حكومة نتنياهو لإرسال رسالة ردع إقليمية. فى المقابل يبدو أن «حماس» سعت من خلال الدفع باتجاه مواجهة عسكرية إلى محاولة الهروب من مسؤولية الحركة وسياساتها التفتيتية وطنيا، والعدائية إقليميا تجاه مصر أهم جيران قطاع غزة، عن الأزمة المعيشية المتزايدة فيه، حيث استغلت المواجهة العسكرية لتصدير الأزمة إلى الخارج وتحميلها لأطراف إقليمية. كما سعت «حماس» إلى استعادة دور إقليمى تراجع كثيرا بعد اصطفافها فى محور تركى-قطرى، ومحاولتها التدخل فى مسار التفاعلات والصراعات السياسية فى دول عربية مهمة، خصوصا مصر وسوريا. مع انطلاق المواجهة، رفضت «حماس» مبادرة مصرية مبكرة لوقف إطلاق النار ثم الجلوس على مائدة المفاوضات لبحث القضايا العالقة، وحاولت الحركة، فى مفارقة مثيرة للانتباه، فرض شروط جديدة لوقف إطلاق النار لم تطرحها فى اتفاق التهدئة التى رعاها نظام الإخوان المسلمين المطاح به فى مصر عام 2012، خصوصا فتح كل المعابر وإخضاعها لإشراف دولى. وبدلا من أن تنتهج الحركة مسارا تصالحيا مع الحكومة المصرية سعت إلى إهدار مبادرتها، فى محاولة لأن تحظى باعتراف إقليمى ودولى لوجودها كطرف مفاوض مستقل عن السلطة الفلسطينية. إلا أنه تحت ضغط تصعيد الهجوم الإسرائيلى وتزايد الخسائر البشرية والمادية الكبيرة، وعجز «حماس» والفصائل الفلسطينية فى القطاع عن تحقيق أى إنجاز حقيقى على الأرض يعيق إسرائيل عن تحقيق أهدافها وسيطرتها على نحو ثلث قطاع غزة، وبعدما طرح نزع سلاح الفصائل فى القطاع كأحد شروط المبادرة الأمريكية اللاحقة للمبادرة المصرية، اضطرت «حماس» إلى محاولة اللحاق مجددا بالمبادرة المصرية ضمن وفد فلسطينى موحد، استقرت الفصائل على أن يزور القاهرة لبدء وساطة مصرية، إذا ما قبلت إسرائيل بالتهدئة. وتنبئ المواقف المترددة والمتباينة من قبل «حماس» التى صاحبت الإعلان عن إرسال وفد فلسطينى موحد إلى القاهرة، بوجود خلافات متزايدة بين قيادات الحركة وأجنحتها حول المعركة وسبل إنهائها، والأهم حول علاقات الحركة الإقليمية، خصوصا مع مصر. وتبدو المعضلة الحقيقية أمام الحركة الآن هى استحالة مواصلة المعركة فى ظل الخسائر الكبيرة والمتصاعدة ضمن استراتيجية تكسير عظم واستنزاف إسرائيلية واضحة، وفى المقابل، التأثير الكارثى لإنهاء المعركة من دون أى إنجاز يتعلق بفتح المعابر، ويبرر خوض هذه المعركة المدمرة من دون حساب عقلانى ورشيد لتوازنات القوى العسكرية والسياسية المحيطة بها. يحمل اليوم التالى لانتهاء هذه المعركة احتمال تآكل شرعية حكم حركة حماس لغزة جراء الخسائر الكبيرة الناجمة عن العملية، والتصميم على مواصلة المواجهة مع إسرائيل، ورفض المبادرة المصرية. ويهدد أى اضطراب أمنى قد ينشأ عن ذلك بازدياد مخاطر تغلغل عناصر أكثر تطرفا تنتشر حاليا عبر الإقليم إلى القطاع. يفرض هذا السيناريو على مصر ضرورة توظيف معركة غزة ومآلاتها لتكون مدخلا إيجابيا لخفض مستوى انخراطه فى لعبة الاستقطابات الإقليمية، وعودته إلى اللحمة الوطنية الفلسطينية، فى إطار مشروع وطنى حقيقى للتحرر. ونظن فى هذا السياق أن أبرز عناصر أى استراتيجية لتحقيق هذه الغايات تتمثل فى: أولا: عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، باعتبار ذلك هو المدخل لأى تهدئة طويلة المدى وتسوية لمسألة فتح المعابر. ودعم وجود السلطة الأمنى فى القطاع، وتعزيز قدرتها على ملاحقة كل العناصر التى تمثل تهديدا لمصر، وبالتالى إزالة أسباب القلق المصرى من فتح المعبر الحدودى مع غزة. ثانيا: إقرار تفاهمات تحييد سلاح الفصائل الفلسطينية عن أى صراعات داخلية، وكذلك عدم استخدامه فى مواجهة إسرائيل خارج إطار استراتيجية فلسطينية متكاملة. ثالثا: مع الإقرار بتهرب إسرائيل من أى اتفاق تسوية نهائى يضمن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة، فقد أصبح جليا أن المدخل العسكرى فى ظل توازنات القوى القائمة حاليا لن يجلب إلا مزيدا من الدمار للمقدرات الفلسطينية جميعها، وتآكل الدعم الدولى لقضية التحرر الوطنى الفلسطينى. وهنا نظن أن للمدخل السياسى فرصا أخرى يجب تعزيزها، أهمها حشد دعم دولى لإعادة إعمار قطاع غزة ضمن جهد دولى وإقليمى لتأسيس مؤسسات الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، وحماية ما بقى من إقليمها من خلال مشاريع عمرانية حقيقية، وتعزيز قدرتها ومكانتها الاقتصادية، بحيث تمتلك وجودا حقيقيا ومؤثرا يغير خلال الأمد المنظور من معطيات معادلات القوة الشاملة، ويجعل الاعتراف بها أمرا حتميا. ولعل فى ذلك، المدخل الحقيقى لخفض مخاطر التطرف داخل غزة، ولتحرير القرار الفلسطينى من الاستقطابات الإقليمية.