كتب كثيرون فى مواجهة مسلسل «سرايا عابدين» بخصوص مغالطاته التاريخية، ولكن بعيدًا عن ذلك فقد حكى المسلسل من ضمن ما حكى عن السخرة أيام حفر قناة السويس وهى غير المختلف عليها على أى حال -الصورة التى قدَّمها المسلسل كانت معبّرة سواء كانت صحيحة أم لا- فصوَّر رجالًا على ظهر خيول يحملون عصا برأس دائرية تتسع لشخص كأنها ملقاط يجرى الفارس خلف الناس المهرولة أمامه ويصطادهم برأس عصاه فيصير الرجل داخل الدائرة غير قادر على الحركة، حتى يأتيه المترجلون ليقيدوه ويسوقوه إلى مثوى سخرته حيث مكان الحفر. أعادنى المشهد إلى ماضٍ يسبقه وحاضر نعيشه، فالصورة رسمت وجهًا آخر لحياة المصريين فى عهود محمد علِى وأبنائه، فالسخرة كما يعلم الجميع بدأت مع محمد علِى عندما قرر بناء الجيش ولم يفلح فى الاستناد إلى العبيد من السودان، وكانت فكرة الانضباط فى جيش بطبيعة الحال غريبة ومرفوضة عند المصريين فاستبدال حياة أخرى بحياتهم قد يستمر لعشرين سنة فى مؤسسة الجيش بكل ما تشمله من حزم وربط وبُعد عن الأهل والأبناء كانت فكرة قاسية لا يتحملها أحد، وبالتالى لم يدخل المصريون الجيش طواعية، فقرر محمد علِى تجنيدهم رغمًا عنهم، وكانت تجرى عمليات مشابهة للمشهد الذى رواه المسلسل فى صورة لتجنيد المصريين. كانت حملات واسعة تنزل إلى القرى للقبض على الناس أو خطفهم رغمًا عنهم وإرسالهم إلى معسكرات الجيش حتى انتشر بين الكثيرين عادة تشويه أنفسهم حتى لا يذهبوا إلى مصير الجيش المجهول، فمنهم من يفقأ عينه أو يقطع أصابعه أو جزءًا من قدمه وهكذا، ودمرت هذه السياسة حياة كثير من المصريين وقطعت روابطهم الاجتماعية وتركتهم فى براثن الفقر والاكتئاب والحياة التعيسة، وقد رصد هذا الجانب من الحياة التى عاشها المصريون فى عهد محمد علِى الدكتور خالد فهمى فى كتابه المميّز «كل رجال الباشا» والذى يمكنك عزيزى القارئ أن تجد فيه تفصيلًا مملًّا عن كل ما سبق، فالكتاب اعتنى بحالة المصريين لا بإنجازات محمد علِى والجيش الذى بناه والنهضة التى أسسها، وهى حقائق، ولكن المميَّز فى فكرة الكتاب وما رصده هو الوقوف على حال الغلابة الذين دفعوا ثمن هذه النهضة ولا يذكرهم أحد حتى أبناؤهم الذين هم نحن. ذكر الكتاب أن انتفاضة كبيرة قامت فى الصعيد ضد سياسات محمد علِى فى التجنيد والضرائب، وأن أكثر من 30 ألف رجل وامرأة شاركوا فيها وزحفوا على مقرات حكم الحكام المحليين وأسروهم، وأن التمرد امتد إلى المديريات المجاورة فى مصر الوسطى ولم تفلح وسائل السلطة بالترغيب والترهيب فى إخماد الانتفاضة، فقررت السلطة إرسال قوة مدربة من جنود وضباط لمواجهة التمرد، فسحقوه وخلفوا وراءهم 4000 قتيل. قصة السخرة فى حفر قناة السويس -سخرة المصريين- مصدر الدخل الأجنبى الأهم لمصر منذ إنشائها وحتى الآن، بنيت أيضًا على أرواح آلاف منهم وتحطيم حياة عشرات الآلاف من العائلات، وتبقى الأسطورة مستمرة فى عهود متتابعة ملخصها أن جدارًا عازلًا كبيرًا وضخمًا يقف فى منتصف الأرض ما بين حياة المصريين ورفاهتم وحريتهم، وبين النهضة والتطوير والتنمية والبناء -عندما يحدث طبعًا- ونظل نقدّس أناسًا وحقبًا صنعت مجدًا على حساب أهل الأرض وملحها. لا أقول أن لا نمتن لكل مجد تحقَّق وكل نصر حدث وكل بناء أُقيم ولكن أقول إن الوطن هو الناس هو الشعب هو الحياة التى يعيشها أهل هذه الأرض عليها وتحت سمائها، الوطن هو الفرد - الوطن هو كل فرد، وأقول أن مقدار تعظيمنا وتقديرنا لحاكم أو لحقبة فى تاريخنا وحتى حاضرنا يجب أن يقاس بمدى ارتباط ما تحقَّق من إنجاز برفاهية هذا المواطن صاحب الأرض، وطالما كان الإنجاز بعيدًا عن الفرد أو ضاغطًا عليه بالسلب، فيستمر انتباهنا للفجوة الكبيرة والشرخ العظيم. لهذا كانت عبقرية الشعارات التى رفعت فى يناير على ألسنة المصريين عفويًّا «العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية» -التطوير والتحديث هنا فى عرف الثورة مرتبط بحرية الفرد وكرامته- هى جزء من فلسفة الثورة العظيمة لحل معضلات الماضى الأزلية - لا معنى فى دولة الثورة للأمن من دون الحرية أو للتنمية والعيش من دون الكرامة. أحب أن أختم بجزء من مقال للشيخ محمد عبده فى مجلة «المنار»، ردًّا على مقال كتبه مصطفى كامل يطالب فيه بإعلان العيد المئوى لتولّى محمد علِى عيدًا وطنيًّا، ذكره د.خالد فى كتابه، حيث كتب يقول «قالوا إنه أطلع نجم العلم فى سماء البلاد.. نعم عنى بالطب لأجل الجيش.. أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوروبا ليتعلموا فيها.. فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا فى البلاد ما أفادوا؟! كانوا يختطفون تلامذة المدارس من الطرقات وأفناء القرى.. كما يختطفون عساكر الجيش، فهل هذا مما يحبب القوم فى العلم ويرغبهم فى إرسال أولادهم إلى المدارس؟! يقولون إنه أنشأ المعامل والمصانع، ولكن هل حبَّب إلى المصريين العمل والصنعة حتى يستبقوا تلك المعامل من أنفسهم؟! يقولون إنه أنشأ جيشًا كبيرًا فتح به الممالك، فهل علَّم المصريين حب التجنيد وأنشأ فيهم الرغبة فى الفتح والغلبة وحبب إليهم الخدمة فى الجندية وعلمهم الافتخار بها؟!».