يعيب البعض على الأسرة العلوية عدم انتمائها لأصول مصرية، وبالتالى لم تُحدث أى تطور على المستويين الاجتماعى والاقتصادى، بينما الملتزمون بالمنهج العلمى أجمعوا على وصف محمد على ب(البناء العظيم) وذكر محمد شفيق غربال أن محمد على قال إن تاريخى الحقيقى بدأ عندما فككتُ قيودى وأخذتُ أوقظ هذه الأمة من سبات الدهور (كتاب الهلال أكتوبر 1986 ص 71) أرسل محمد على بعثة إلى إيطاليا لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن والطباعة والهندسة. وبعد ذلك أرسل البعثات إلى فرنسا. وحرص على متابعة أخبار الطلاب المصريين وتصرفاتهم فى بلاد الغربة ويواليهم بالنصائح ويستحثهم على الاجتهاد. محمد على يصف المصريين ب(شعبى):
وفى عام 1838 قرر محمد على إرسال بعثة إلى بريطانيا وقال للمندوب الإنجليزى (إن الطفرة محال فى رقى الأمم. وقمتُ ببعض الشىء لمصر ويعوز شعبى شىء كثير. لذلك ترانى مرسلا إلى بلادكم أدهم بك ومعه خمسة عشر شابا ليتعلموا ما تُعلمه بلادكم. وإذا مضوا زمنا كافيا بين أهل بلادكم عادوا لبلادهم وعلموا الشعب) (تاريخ مصر السياسى تأليف محمد رفعت ط 1934) ونظرا لدور محمد على فى النهضة كتب سفير النمسا فى تركيا عام 1830 إلى حكومته (إن طموحا كبيرا يسيطر على حاكم مصر محمد على. وأعتقد أنه بحاجة إلى عشر سنوات من السلام حتى يجعل مصر الأمة الخامسة فى العالم بعد روسيا وانجلترا وفرنسا والنمسا) (حرب الاستعمار ضد محمد على والنهضة العربية تأليف د. جوزيف حجار) فكأن سفير النمسا كان يتنبأ بما حدث بعد ذلك عندما تواطأت تركيا وأوروبا ضد محمد على الذى كان يسعى لاستقلال مصر عن تركيا.
محمد على يشهد بأن فى أولاد مصر (نجابة):
كان التعليم فى مصر قبل محمد على قاصرا على الكتاتيب وأول ما فكر فيه هو إنشاء مدرسة للهندسة وأتمها عام 1816 وذكر الجبرتى أن السبب فى تأسيسها أن رجلا مصريا اسمه حسين شلبى عجوة اخترع آلة لضرب الأرز وتبييضه وقدم نموذجها إلى محمد على فأعجب بها وأنعم على الرجل بمكافأة وأمره بتركيب هذه الآلة فى دمياط وأخرى فى رشيد. وقال محمد على ((إن فى أولاد مصر نجابة وقابلية للمعارف)) كما أنشأ مدارس الطب والألسن والمعادن والمحاسبة والصنايع والصيدلة والزراعة والطب البيطرى وغيرها. وبعد أن وضع قواعد الدولة الحديثة، بدأت آليات النهضة تشق طريقها مثل وجود دستور وبرلمان ورقابة على المال العام. ومن أمثلة ذلك الخطاب الذى ألقاه شريف باشا يوم 2/1/1882 أمام مجلس النواب حيث قال لهم ((لقد أعطتكم الحكومة الحرية التامة فى إبداء آرائكم وحق المراقبة على أفعال مأمورى الحكومة. ونُصرح لكم بنظر الموازنة العمومية وإبداء آرائكم فيها ونظر جميع القوانين واللوائح)) وعندما اعترضت إنجلتراوفرنسا وأرادتا حرمان مجلس النواب من حق إقرار الميزانية، فإن المجلس قرر يوم 2/2/1882 أنه ((لا حق لمعتمدى الدولتين فى معارضة ما هو من شئون مصر الداخلية)) وفى يوم 6 فبراير عقد مجلس النظار جلسة بشأن لائحة النواب فأقرها بما فى ذلك نظر الميزانية. وكتب أحمد باشا شفيق (إلى هنا كان النصر المبين حليفا للعرابيين. وكانت الهزيمة شديدة لسياسة الدولتين) (مذكراتى فى نصف قرن هيئة الكتاب 1999 من 132 134).
وعندما أراد رياض باشا فض جلسات شورى النواب دون النظر فى الميزانية، شهدت مصر جلسة تاريخية يوم 27/3/1879 إذ قال النائب عبدالسلام المويلحى ((إننا هنا سلطة الأمة. فكيف ينفض المجلس وهو ينظر فى القانون الخاص بالشئون المالية؟ أيد النواب زميلهم فقال رياض باشا ((يعنى حظراتكم تُقلدون نواب فرنسا؟)) فرد عليه أحمد العويسى ((يا باشا أنت الآن تشتم نواب أمتك التى تعطيك أنت وغيرك مرتباتكم)) وقال عبدالشهيد بطرس (إن كلامك هذا وقاحة) وقال أحمد الصوفانى ((أوافق الزميل على رد الإهانة للناظر حتى يعلم أن فى البلاد أمة حية ولها نواب يدافعون عن كرامتها)) وقال المويلحى ((أليس من العيب أن تكون وزيرا فى وزارة يزاملك فيها وزير انجليزى وآخر فرنسى وهما فى الحقيقة خفيران عليكم وعلى الحكومة؟)) (عبدالرحمن الرافعى عصر إسماعيل ج2 مكتبة النهضة المصرية عام 1948 من ص 177 188) ولنا أن نتخيل أن المويلحى وزملاءه قالوا هذا الكلام فى عهد عبدالناصر. أليس معتقل الواحات هو المكان المفضل لأمثالهم؟ ويرى المؤرخ محمد الخفيف أن شريف باشا كان الأب الحقيقى للدستور فى مصر فكتب ((فإن ذلك المجلس الذى تعهده برعايته منذ إنشائه سنة 1866 تمت له السلطة على يديه سنة 1879 فصار الحكم فى مصر دستوريا لا تشوبه شائبة. وما كان دستور 23 إلا الدستور الثانى للبلاد. أو بعبارة أخرى ما كان إلا توقدا لتلك الجمرة التى ظلت مطمورة تحت رماد الاحتلال)) (أحمد عرابى الزعيم المفترى عليه دارالهلال يونيو 1971 ص 48).
إن أى مؤرخ منصف لا ينكر أن الأسرة العلوية ارتكبت جرائم بشعة ضد شعبنا. ولكنه لا ينكر الإنجازات العظيمة التى تمت فى عهود هذه الأسرة. مثل إلغاء العبودية بالدكريت والصادر فى 4/8/1877 وإلغاء السخرة عام 1890 بفضل نوبار باشا وتجنيد المصريين الذى رفضه كل الغزاة بمن فيهم العرب وترقية (النفر) إلى رتبة الضابط مثلما حدث مع أحمد عرابى، وحق المصريين فى تملك الأراضى الزراعية فى عهد سعيد (اللائحة السعيدية) عام 1858 وبذلك صار من حق المصرى أن يمتلك حق الرقبة، وليس حق الانتفاع فقط. وأعلن سعيد رغبته فى استقلال مصر عن تركيا وهى نفس المحاولة التى حاولها إسماعيل من بعده. كما أن المؤرخ المنصف لابد أن يضع فى اعتباره الظرف التاريخى عام تولى محمد على الحكم، حيث كان ظلام العصور الوسطى مازال جاثما وعائقا أمام أى تنوير أو أية نهضة. ولنا أن نتخيل عمر مكرم هو الذى حكم مصر، فهل كان سيشعل مصابيح التنوير والنهضة كما فعل محمد على؟ أم أن تحليل عقليته الأزهرية وإيمانه بأن البشر أشراف وموالى (= عبيد) يؤدى إلى استمرار نمط الحكم العثمانى الغاشم؟ وإذا كان البعض ينتقد محمد على فى حروبه ضد الوهابيين وتهديده للخلافة العثمانية، فلماذا الصمت عن قتل المصريين فى حروب لا شأن لمصر بها. وكمثال واحد من بين عدة أمثلة ذكر أ. هيكل أن عدد الجنود المصريين فى اليمن بلغ 40 ألفا. وأن حرب اليمن كلفت مصر ما بين أربعين إلى خمسين مليون جنيه سنويا أى ما يوازى مائة مليون دولار سنويا بسعر الستينيات (الانفجار ص 168،185) ووصل عدد القتلى إلى خمسة عشر ألف جندى مصرى. وفى اجتماع القيادة السياسية الموحدة يوم 11/5/65 قال عبدالناصر ((إحنا بنصرف فى اليمن نقدا 30 مليون جنيه. والإجمالى 45 مليون جنيه)) وأضاف ((القبائل حتى الجمهورية بياخدوا مننا فلوس وأيضا بياخدوا من السعوديين فلوس)) (عبدالناصر وتحرير المشرق العربى فتحى الديب مركز الدراسات بالأهرام 2000 من ص 507 522) وكتب د. عاصم الدسوقى أن الرئيس الأمريكى جونسون أرسل خطابا للأمير فيصل أبلغه فيه أن اليمن يمكن أن تكون مصيدة لعبدالناصر وهكذا بدأ برنامج إطالة الحرب لاستنزاف قوة مصر. وكانت الترتيبات تتم لتوريط الجيش المصرى فى مواجهة مع إسرائيل بعد إنهاكه فى اليمن. وهذه أمور معروفة لمن يريد أن يستخدم العقل ووثائقها الأمريكية مكشوفة (مجلة الهلال يوليو 2002) وطبعا المصيدة لم تكن لعبدالناصر الذى استمر ليُمهد لكارثة بؤونة/يونيو 67. وإذا كانت الأسرة العلوية مستبدة، فقد كتب كثيرون أن عهد عبدالناصر كان أشد استبدادا فذكر أ. عبدالله عنان ((إن نظم الحكم التى سار عليها عبدالناصر كانت فى جوهرها نظما نازية)) (كتاب الهلال يناير 88 ص 231) وذكر د. إمام عبدالفتاح إمام أن ضباط يوليو حولوا دفة الحكم من النظام النيابى الدستورى (رغم ما فيه من ثغرات) إلى نظام ديكتاتورى عسكرى وضع البلاد فى معتقل كبير (الديمقراطية والوعى السياسى نهضة مصر 2006 ص 109) فى ضوء ما تقدم من أمثلة قليلة أعتقد أن أى رداء أيديولوجى يفسد حياد المؤرخ ويبتعد به عن لغة العلم ويسحبه إلى ضبابات الأوهام التى تؤله أحادية النظر.