منذ أول رمضان، وأنا مستغرق فى تفاصيل الحملة الفرنسية، والعلاقات المتشابكة بين الشيوخ والسلطة بأشكالها المتعددة من عثمانيين ومماليك وفرنسيين، بالإضافة طبعًا إلى السلطات المعنوية للمال والوجاهة والشهرة، وفى الطريق حكايات مؤثِّرة عن سلطة النساء والشهوة، وأخيرًا نتذكَّر سلطة العوام باندفاعاتها العفوية المؤقتة وغير المخططة، ولذلك عادة ما تتشتت حركتها، وتتبعثر آمالها لصالح السلطات الأخرى، الأكثر انتهازية ووعيًا بمصالحها وغرائزها. هل تظنون أننى ابتعدت عن الحاضر، وتجنَّبت الحديث عن قرارات رفع الأسعار، وإفطار المليارات الخمسة وتعرُّض غزة للدمار؟ بالعكس، أنا فى قلب المعمعة، وأحوال مصر على أبواب القرن التاسع عشر تشبه كثيرًا ما نحن فيه، بل إننى أرى الصورة أوضح، يكفى فقط أن تنظروا معى إلى التاريخ بعين الحاضر، وستكتشفون أننا لم نغادر ماضينا، ونكرر نفس الألعاب بنفس الأخطاء. خلال الأيام المقبلة سنتعرَّف معًا على أجواء ثورة القاهرة الثانية، وطبعًا الجبرتى يسميها «الفتنة الثانية»، لكن بصرف النظر عن المسميات، فإن قصة هذه (الثورة/ الفتنة) ملحمة عظيمة تضىء لنا الطريق لفهم المرحلة التى نعيشها، بصرف النظر عن اختلاف المؤرخين الواسع فى رؤية هذا الحدث من حيث أسبابه ودوافع القوى المشاركة فيه، ونتائجه. وأكتفى هنا بقراءتين مختلفتين للحدث، الأولى: هى التسجيل العينى المباشر الذى عايشه الجبرتى وسجَّله فى كتابه المحترم «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، والثانية: هى تأويل المحدثين للحدث التاريخى وتلوينه بالعاطفة الحماسية، أو المذاهب الدينية والسياسية، والاتجاه الفرانكفونى والتغريبى عمومًا، فهناك مسافات واضحة مثلًا بين قراءة الرافعى، وقراءة محمد جلال كشك، وقراءة محمد عودة. وعلى كل حال سأبدأ بالقراءات الحديثة التى لم تعاصر الحدث، لكن تيسر لها مسافة زمنية لمعرفة النتائج، ووضع الوقائع فى سياق تاريخى ما، وسأختار أستاذنا الراحل محمد عودة مرتكزًا على القراءة الرومانسية لثورة القاهرة الثانية. يقول عودة: «بدأ البحث والتفكير عن طريقة لإنهاء الاحتلال الفرنسى، وانتهى إلى أنه لا بد من عمل كبير يسبق الجميع ويثبت الحق لأصحابه الشرعيين وبدأ الإعداد والتخطيط لثورة ثانية تستخلص كل دروس الهزيمة الأولى وتكون فاصلة تبدأ بالاستيلاء على العاصمة والإجهاز على قوات الاحتلال، وتبطل بذلك كل دعوة للغزاة بالتدخّل باسم (تحرير البلاد)». تألفت قيادة محددة من عمر مكرم نقيب الأشراف، والشيخ محمد السادات زعيم الثورة الأولى (طبعًا لم يشارك فى أحداث الثورة الأولى، وذهب إلى بونابرت للتشفُّع لديه فى أمر الشيوخ المقبوض عليهم) والشيخ محمد الجوهرى، وكانوا القيادة الروحية التى تقوم بالتوعية والتعبئة ثم تولَّى أحمد المحروقى «شاهبندر التجار»، ومصطفى البشتيلى شاهبندر تجار بولاق، عملية التمويل والتسليح، وقُسّمت العاصمة إلى مناطق وأحياء لكل منها قيادتها وقواتها وسلاحها وتموينها للإعداد لهجوم مشترك على القيادة العامة الفرنسية ثم كل الثكنات والمواقع معًا. وأورد عودة شهادة للمهندس الفرنسى (بارتان)، اعترف فيها بأن سكان القاهرة حقَّقوا ما لم يتصوَّر أحد أن يقوموا به، فقد صنعوا البارود والقنابل، ثم فعلوا ما يصعب تصديقه وهو صنع المدافع. فقد أقيم معمل للبارود فى بيت قائد أغا فى الخرنفش، كما أقاموا عدة ورش لإصلاح الأسلحة، واستخدموا حديد المساجد والعمائر والحوانيت، وتطوَّع العمال بلا أجر وقدَّموا ما لديهم من آلات وحديد وموازين. وقُدّر عدد القوات التى أعدّت للمعركة بخمسين ألفًا. خمسة عشر ألفًا من سكان القاهرة وعشرة آلاف من أهل الدلتا والصعيد، والنصف الآخر مغاربة وحجازيون متطوعون، ثم مماليك تسللوا عائدين، ثم عثمانيون أسرى تسللوا من الإسكندرية، وتحدّدت ساعة الصفر يوم 20 مارس سنة 1800م. بدأت الثورة من حى بولاق بزعامة مصطفى البشتيلى، ولم تلبث أن عمّت المدينة وامتلأت الشوارع بنحو خمسين ألفًا حاملين كل أنواع الأسلحة والبنادق والسيوف والحراب والنبابيت وانضم إليهم النساء والأطفال، واتجهت قوة منهم إلى القيادة الفرنسية العامة، حيث حاصرتها، واتجهت قوات أخرى إلى مختلف الثكنات وأحياء الأجانب، ودهش الفرنسيون لهذه الجموع الحاشدة المسلَّحة ثم للهجمات الشرسة التى انصبَّت عليهم. وغدًا نكمل..