القاهرة تعيش حالة الثورة لأول مرة فى تاريخها... ياااااه. بعد نشأتها بأكثر من 850 عامًا أصبحت القاهرة عاصمة مدنية يخطط سكانها للثورة، وينتفضون دفاعًا عن حياتهم ومصالحهم، فى ظروف صعبة وغير متكافئة، وخارج كل التوقعات! كيف حدث هذا؟ المؤسف أن التاريخ ذاكرته ضعيفة عندما يتحدث عن الناس والثورات، ورغم مئات الكتب التى تناولت مرحلة الحملة الفرنسية، يكاد يكتفى التاريخ ببضعة أسطر غامضة ومبهمة عن ثورة القاهرة الأولى، وعادة ما تكون هذه الأسطر مشوشة وملونة، وتخلط الدوافع والأسباب والأبطال حتى لا تكاد تعرف الحقيقة وسط هذا الضباب المقصود، واسمحوا لى أن أتناول موضوع هذه الثورة المهمة بقدر من التفصيل والتأنى، ربما نتعرف على حالنا اليوم فى مرآة ذلك التاريخ. وأبدأ بتلخيص الرواية الرسمية الشائعة: «..وكانت بؤرة الثورة ونقطة انطلاقها من الجامع الأزهر، حيث قاد المشايخ الثورة وانتفض الشعب على المحتل الصليبى، وعمت الثورة أنحاء القاهرة، ورد الفرنسيون بمنتهى العنف، ودخلوا بخيولهم صحن الجامع الأزهر ومزقوا المصاحف وداسوا عليها بأرجلهم، قطعهم الله فى نار جهنم، ودمروا أحياء القاهرة والقلعة وبولاق على رؤوس ساكنيها، وألغى نابليون الديوان وجعله كله من النصارى، وفرض غرامات باهظة على مشايخ الأزهر الكبار، وأعدم عددًا من صغار المشايخ الذين قادوا الثورة، وسقطت الأقنعة وظهر الوجه الصليبى لنابليون الحاقد على كل من هو مسلم». طبعًا هذا كلام عاطفى ملىء بأخطاء تاريخية سنكتشفها مع استكمال الحكاية، وننتقل إلى الرواية الفرنسية التى تحدثت عن مؤامرة لعب فيه الشيخ السادات دورًا لتحريض الناس، بعد أن استبعده نابليون من الديوان، فاتصل بالعثمانيين، واتفق معهم على دفع الناس لمقاومة الاحتلال الفرنسى مقابل وعود بتعظيم مكانته بعد رحيل الفرنسيين! ودعا بالفعل لتشكيل «لجنة قيادة» تكونت من 80 شخصا من الأحياء المحيطة بالأزهر، خصوصا حى الحسينية هم الذين خططوا لهذا العنف! الرواية الثالثة الواقعية هى شهادة المؤرخ المعاصر للأحداث عبد الرحمن الجبرتى، وهى رواية صادمة ومثيرة للجدل رغم ثرائها فى الوصف والتفاصيل، لكنها تشبه التغطيات الإعلامية للثورات فى هذه الأيام، مع ملاحظة أن الجبرتى لم يذكر ثورة القاهرة باعتبارها «ثورة» بل «فتنة» (كما نظر نظام السادات لانتفاضة الخبز فى 1977 باعتبارها «هوجة حرامية»!)، ويقول: «تسبب فى هذه الفتنة بعض العامة الغاضبين من الضرائب ومن وافقهم من (المتعممين) الذين لم ينظروا إلى عواقب الأمور (يقصد الطلبة المجاورين) وخطباء المساجد الصغيرة». ويضيف الجبرتى: «تجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم، وأصبحوا يوم الأحد متحزبين، وعلى الجهاد عازمين، وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح، وحضر السيد بدر (يقصد بدر الدين بن موسى الوفائى، المعروف بابن النقيب، وهو عالم دين فلسطينى من أشراف بيت المقدس هاجر إلى القاهرة مع عائلته ودرس فى الأزهر، وله قصة مهمة سنعود إليها فى سيرة الشخصيات).. حضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية (لا يقصد التحقير بل يقصد السكان المحشورين داخل الحارات الداخلية) وزعر الحارات البرانية، وكان لهم صياح عظيم، وهول جسيم، ويقولون بصياح فى الكلام (يهتفون بشعارات): نَصَر الله دين الإسلام، وتجمعوا وتبعهم من على شاكلتهم نحو الألف والأكثر، وذهبوا إلى بيت قاضى العسكر، فخاف وأغلق أبوابه وأوقف حجابه، وحاول الهرب فلم يمكنه الهروب، وأمسكوه، وألزموه أن يركب معهم إلى مسكن بونابرت فى الأزبكية، وبعد أن وافقهم عاد وأحجم عن ذلك خشية العواقب، فرجموه بالحجارة والطوب ونهبوا منزله، واجتمعوا فى صحن الجامع الأزهر، وهم يهتفون بالثورة والقتال، وعلم الجنرال ديبوى حاكم القاهرة بالخبر، فنزل إلى المدينة فى كتيبة من الفرسان، فازدحمت الجموع من حوله، وتساقطت عليه وعلى رجاله الأحجار من كل صوب، فحاول ديبوى أن يهدئ الجموع، فلم يصغِ إليه أحد، فهجم على الناس بفرسانه، وردت الناس بالهجوم، وانهالوا عليه وعلى رجاله بالضرب والرجم، والطعن بالرماح والسيوف، فقتل ديبوى وبعض رجاله، وعندئذٍ اشتدّ الهياج، وتضاعفت الجموع، وانساب الثوّار إلى سائر الأحياء المجاورة، وتفاقمت الأحوال».