ما أبرز الأكلات المصرية؟ سؤال من الغرباء صعبٌ علىّ دوما الإجابة عنه. ربما لأن مفهومى عن أبرز الأكلات فى مطبخ معين يشمل فقط الأكلات الولائمية، كالكباب والكفتة التركيين، والمنسف الخليجى، والقوزى العراقى، ومزات اللحوم المتعددة، والكبة بأنواعها فى لبنان، والطواجن فى الجزائر والمغرب. أفكرُ فى الأكلات المصرية، فتأتى إلى ذهنى أسماء الفول والطعمية والمسقعة والباذنجان بالخل والكشرى والعدس والمحشى والبصارة، وأكلات أخرى محلية لا يعرفها سوى أهل مناطق بعينها، كلها أكلات قرديحى، وحتى حين أفكر فى اللحوم أجد أن الأكلات المصرية فعلا، لا المنقولة عن مطابخ أخرى، تتركز فى الرأس والأرجل والأحشاء، أجزاء يتخلص الأغنياء منها عادة. كنت أعتبر المطبخ المصرى من ثم مطبخا فقيرا فى إبداعه، وبررت ذلك بأن الطعام لم يكن الشغل الشاغل للمصريين الذين يقضون يومهم خارج المنزل. باعتبار أن المطبخ فن منزلى، لا يجيده إلا المستقرون ذوو الوفرة فى المواد الغذائية الخام. لكن تعودى على مطبخ آخر مسرف فى أكل اللحوم، جعلنى أعيد النظر، وأتعلم حب أكلات لم أكن أستسيغها على الإطلاق، وأتعلم استطعام الباذنجان الذى طالما شعرت بالقرف من مجرد رؤيته. وتلك إحدى فوائد السفر السبعمئة ويزيد، أنه يعيد ترتيب قيم الأشياء. حين ترى الباذنجانة أغلى ثمنا من معادلها فى الوزن من اللحوم، وحين تشترى لحم الديك الرومى بخمس ثمن سندوتش فلافل، تتذوق الجميع بطريقة أخرى. ليس فيها احتقار مسبق لما اعتدت عليه قليل الثمن. تتعلم أن القيمة والثمن ليسا مترادفين. واضح أن المطبخ المصرى نشأ بين ربوع شعب فقير، محروم من خيرات بلاده. وهذا شىء يتسق تماما مع ما نعرفه من تاريخنا. لقد حكمنا آلاف السنين من أناس يعتبروننا مواطنين من درجة ثانية، لا يثقون بنا لكى نلتحق بالجيش، يسقطون علينا أبشع الأوصاف من جبن وتخاذل و«لعوبية» وتفريط فى الشرف، بل وفى بعض الأحيان يقصرون العيش فى عاصمة الدولة على عنصرهم وعلى حاشيتهم من الأجانب ومن يخدمهم من المصريين. فكان طبيعيا أن يتفنن المطبخ المصرى فى المتوفر من الخضراوات، والمتبقى من اللحوم بعد استهلاك «الأكابر» له. تصحيح: المطبخ المصرى إذن فقير فى إمكاناته لكنه، على خلاف ما اعتقدت، ليس فقيرا أبدا فى إبداعه. إنما فقد قيمته لدينا بسبب اعتيادنا عليه، وبسبب قلة ثمنه التى جعلتنا نقلل من قيمته. تحتاج إلى أن تنظر إليه، للأسف، بعين الغريب المحب لكى تنزله منزله، وتقدره حق قدره. وهو فى إبداعه يذكرنى بالأغنية الجميلة لفريق «مسار إجبارى»: «بقيت حاوى، بقيت غاوى فى عز الجرح أنا مابكيش، بقيت عارف أطلع من ضلوع الفقر لقمة عيش».. هنا فتح المطبخ لى بابا إلى دهليز صغير مؤد إلى شارع الثورة. فى 1952، ظن المصرى أن الفرج قد جاء، سيحكمنا مصريون لأول مرة منذ عصر الفراعنة، وقد نتذوق من الطعام ما لم نتذوق، وقد نبدع فيه ما لم نبدع. لكن الحقيقة أن المصريين الذين حكمونا لم يغيروا كثيرا فى معادلة النخبة المتمتعة بالميزات والشعب الفقير المطلوب منه أن «يدبر نفسه»، وأن يتفنن فى الفتات ليصنع منه طعامه. تغيرت طبيعة النخب، لكن الفكرة هى هى. وحتى الطبقة المتوسطة التى كانت قادرة على «أكل اللحمة»، بل وفعل ذلك فى مطاعم من وقت إلى آخر، لم تعد قادرة. وتحول اللحم إلى رشوة انتخابية، يا للإهانة! أو إلى صدقة سياسية من القوات المسلحة، يا للصلف! أدرك المبدعون من الشعب أننا نحتاج إلى ثورة أخرى، واستطاعوا أن ينسجوا من القدر القليل من الحرية المتوافر لنا مذاقات مبدعة (يقدرها أيضا الغرباء أكثر منا للأسف)، أغنت قطاعا لا بأس به عن «اللحم السياسى». هؤلاء المبدعون فهموا الفرق بين القيمة والثمن، وأن ما لديهم -حريتهم المنتزعة الضئيلة- أكبر قيمة من الصدقات السياسية. فضلوا الحرمان «من عطف ذوى النفوذ» على التنعم من فتات موائدهم. وفتح المطبخ لى بابا إلى العلاقات الإنسانية. إذ ليس بالبهرجة تحيا المشاعر، إنما بالحب. والحب حر ومشاع. قليل الثمن، لكنه عظيم القيمة. وما بين شباب الثورة ومصر شىء من هذا النوع. لا يدركه المتحصنون بنواديهم. فليكن نصيبنا من السياسة بصارة لا نشبع منها، فنحن مستمتعون، لكننا أيضا، لا نشكُّوا فى ذلك، سنشاركهم اللحم قريبا، ليس لنتخم كما تخموا، إنما لنصنع منه أطباقا مبدعة كعادتنا، لنثرى المطبخ المصرى أكثر وأكثر. بالهنا والشفا، دا احنا زارنا النبى.