الدعوة لمقاطعة اللحم لتنخفض أسعاره قد تظل مجرد كلام نتحدث به فى أماكن العمل أو الجلسات العائلية أو لقاءات الأصدقاء، بعدها نعود الى شراء اللحم - مادمنا لانزال قادرين على الشراء- ونتناوله بحكم العادة معتقدين أنه لا سبيل إلى تطبيق الفكرة تحت ضغط الاعتياد أو الجملة الشهيرة (هنطبخ من غير لحمة إزاى؟) . لكن من نجحوا فى تطبيق الفكرة ونشرها، خاضوا يوميات خاصة مع أفراد أسرتهم، واستخدموا أساليب غير تقليدية تتخطى (كلام فض المجالس) إلى كسر العادة فى ثلاث خطوات فقط . صباح الخير شاركت أسر المقاطعة يومياتهم الخاصة جدا. بعد حوالى ثلاثة أسابيع من مقاطعتى للحم لم تعد لدىّ مشكلة، فالتعود على وجود اللحم بشكل يومى على مائدة الغذاء، حل محله التعود على عدم وجودها، لم يكن الأمر سهلا فى البداية خاصة أن ابنى الأصغر يفضل وجبة الغذاء المصرية التقليدية المكونة من خضار باللحم وأرز وسلاطة، لكنى استطعت أن أقنعه بأننا يجب أن نقف فى وجه جشع التجار، وأن علينا أن نكون إيجابيين، وبأننى لن أتراجع عن قرارى هذا، خاصة أنه أصبح بمثابة مطلب قومى ينادى به قادة الرأى والمشهورون والإعلاميون فى وسائل الإعلام، وليس فقط غير القادرين على الشراء. بهذه العبارة بدأت السيدة أميمة- المهندسة وأم لأربعة أبناء- بقص تجربتها فى مقاطعة اللحم، التى لم تكن قرارا سهلا حسب تعبيرها. وتكمل: أنا لم أقاطع اللحم فقط لارتفاع أسعاره، بل لأنى لم أعد متأكدة من مصدره، رغم أنى أشترى من جزار كنت أثق من مصدر لحمته حتى وقت قريب، ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى أحاول فيها مقاطعة اللحم، فخلال فترات سابقة كنت أقاطع شراء اللحم بسبب إحساسى بأن هناك مواسم معينة تغش فيها اللحم البلدى باللحم المستورد، ولا أعرف تحديدا لماذا، ولكنى كنت أعاود الشراء ثانية تحت ضغط أولادى. وتستدرك: لكنى فى هذه المرة فكرت كثيرا قبل أخذ القرار، ليس ترددا فى أخذه أو فى خوفى من العدول عنه بعد أيام قليلة كما حدث من قبل، لكن لأفكر فى البدائل التى يمكن أن استبدلها باللحم، التى لا نأكلها سوى فى وجبة الغذاء التى تعد بمثابة الوجبة الرئيسية لعائلتى، فى اليوم الأول كانت (البطة) هى ضيفة المائدة، وقلت لأولادى البط أيضا لحمه قريب من طعم اللحم الأحمر، وقلت لهم أن غذاء اليوم التالى سيكون (كُشرى)، حتى يشاركونى فى القرار ولا يشعروا أنى أفرضه عليهم، ففى المرات السابقة كان ابنى الاصغر المحب للحم يعاتبنى إن وجد الغذاء دون لحم، بأنه كان علىّ أن أخبره من قبل فربما فضّل أن يتناول الغذاء خارج المنزل أو يطلب وجبة شاورمة مثلا. ونجحت الفكرة، وكان الصمت هو ردهم على الكشرى ، فقلت لهم سأصنع لكم كشرى على غرار الذى تتناولونه مع أصدقائكم فى المطاعم أحيانا، وأكملت بأن باقى الوجبة سيكون مجموعة من السلاطات المفضلة، وأننى سأصنع أيضا أرزا باللبن، ليكون الصنف الحلو أيضا على غرار ماتقدمه مطاعم الكشرى، فاستحسنوا الفكرة . وفى اليوم الثالث صنعت لهم شاورمة دجاج مع السلاطات، ثم بصارة ومقليات (بطاطس وباذنجان) وصينية مسقعة، وهنا أصبحت العادة هى أن الغذاء أكلات شعبية فى يوم، وفى اليوم التالى دجاج أو حمام أو بط أو سمك أو أرانب مع الخضروات والأرز، فلا يشعر أحد بالملل أو يحن إلى اللحم أو يشتاق له. وخلال فترة تناول الطعام أتحدث مع أولادى حول فوائد البقول واللحم الأبيض، وبدعوات مقاطعة اللحوم التى أصبح يتبناها التليفزيون الحكومى وشخصيات مشهورة، وبأن أقاربنا أيضا قد قاطعوا اللحم ، فالتعود وتقليد الآخرين يسهل تقبل الأفكار الجديدة، بل وتبنيها ونشرها بين آخرين. * فاكهة الخضار ومن القاهرة إلى الإسكندرية حيث بدأت الكثير من الجمعيات الأهلية مواجهة ارتفاع أسعار اللحوم بتوفير لحوم منخفضة السعر، عن طريق اختصار مراحل تسويق اللحم الى مرحلة واحدة فقط، أى من المربى إلى المستهلك مباشرة دون المروربالتجار الوسطاء، قررت غادة عبدالحميد (أم لخمسة أبناء) وزوجة مدرس رياضيات بالتعليم الفنى أن تشترى ربع كيلو لحم بدلا من كيلو، فقط كنوع من المقاطعة بتقليل الاستهلاك ، لأنها تعرف أن أفراد أسرتها يفضلون طعم الخضار المطهى بشوربة اللحم، فاتبعت المثل الشعبى (قِلْ من النذر وأوفى)، وكأن قطع اللحم الصغيرة جدا فقط لتزيين الخضار وإعطائه طعما مسوغا، وقالت لأولادها (قضمة مثل عشرة)، لكن لابد أن نؤثر فى تقليل الإقبال على شراء اللحم لنواجه ما اعتبرته جشع التجار . وبنفس المنطق يطبق (البيه البواب) عم عبد الحميد- حارس أحد العقارات بمدينة نصر - مبادرته فى مقاطعة اللحم، قائلا: رجل البيت له أيضا دور فى مقاطعة اللحم ، فأنا دخلى أكبر من دخل بعض سكان العمارة، وكنت اشترى اللحم مرتين أسبوعيا، وباقى الأسبوع مرة كشرى ومرة سمك ومرة بطاطس وباذنجان ، لكن قررت أن أشارك فى المقاطعة وقلت لأهل بيتى (الأكل من هنا ورايح قرديحى)، وأقسمت ألا اشترى لحما بمائة أو تسعين جنيها للكيلو. وتأخذ الكلمة زوجة عم عبد الحميد قائلة: اشترى مكعبات المرقة بدلا من الشوربة وأطبخ بها الأكل، خضار أو حتى فتة بالثوم والخل من غير لحم، «إحنا نقدر نشترى اللحم ، بس مش عايزين نساعدهم يغلوا الأسعار». أما محمد مجدى- المحاسب بإحدى الشركات- وزجته معلمة التاريخ فأعلنا المقاطعة حتى فى العزومات التى يدعون إليها عند أهلهم (وفى وجود اللحم على المائدة) ليثبتوا للجميع أنهم قد أخلصوا للمبدأ، وليرفعوا الحرج عن أهل البيت أو أصحاب الوليمة إن بدأوا فى المرة المقبلة المقاطعة أيضا، بل ليشجعوهم على عدم تقديمها على المائدة فى المرة المقبلة، ويستبدلا باللحم أنواعا أخرى كالسجق، وينشرا الفكرة أيضا بين زملائهما فى العمل، خاصة من اعتادوا شراء (ساندوتشات البرجر أو الشاورمة) لشراء بدائل أخرى، ويتناولونها معا ليشجع كل منهم الآخر. ويعلق مجدى: يواجه البعض دعوتى للمقاطعة قائلا: (يعنى هى جات عليك) أو «مقاطعتك مش ها تؤثر على الأسعار طول ما فى ناس لسه بتشترى» أو «هانقاطع إيه ولا إيه كل حاجة بتغلى» وأرد عليهم جميعا بأن دى فرصة عشان نبدأ ونختبر النتيجة ومش هانخسر حاجة لو جربنا. * موضة الأرديحى «الأكل قرديحى من غير لحمة.. يعنى إحنا هنموت لو ماكلناش لحمة مالها الفراخ المجمدة ولا السمك الماكريل، كلها مفيدة » هكذا أعلنت تحية عبد الحميد- معلمة بالثانوى- لأولادها الخمسة بعد أن قررت مقاطعة اللحم علنيا ، وأكملت «مش هادفع 65 جنيها فى كيلو لحمة عشان الجزارين يغتنوا على حسابنا ، مش لازمانا، برضه هانعيش لو ماكلناش لحمة». تقول تحية: صحيح تنفيذ القرار صعب خاصة لو ابنك هو اللى بيقولك فين اللحمة، لكن القرار الحاسم لا يعطى فرصة للتراجع، لكنى نجحت فى أن يصبح الأكل القرديحى موضة بين أصدقائه ، لأنى روجت لفكرتى مع أمهات زملائه وأصدقائه، وبحثت عن بدائل أخرى، وكلى أمل أن يشكل ضغطنا على التجار خفضا فى أسعار اللحوم البلدية أو المجمدة، لأنى أعرف أن اللحم مهم لتكوين جسم الأطفال، خاصة فى طور النمو، لكن ما نرجوه أن ينضم للحملة أكبر عدد من الأسر، وأن تظل وسائل الإعلام تتابع الحملة لتطمئننا على أنها تسير فى الطريق الصحيح، أو تصحح مسارنا من خلال آراء الخبراء إذا كنا نسير فى الطريق الخطأ. * تسويق الفكرة الدكتورة فيفيان فؤاد- منسق وحدة القيم بوزارة الأسرة والسكان- تتبنى أيضا مبادرة مقاطعة اللحم بين أسر عائلتها وبين زملائها ومعارفها، وترى أنها نجحت فى ضم أكبر عدد من الأفراد والأسر الى المبادرة من خلال توفير المعلومات العلمية حول فوائد اللحم وأيضا مضاره، فتؤكد فيفيان أن انطلاق المقاطعة بسبب ارتفاع الأسعار لن تقنع الكثيرين ، لكن إذا كانت البداية هى نشر ثقافة تغذوية علمية صحيحة توضح أن الإنسان لا يحتاج إلا إلى تناول اللحم الأحمر مرة واحدة فى الأسبوع، وأن اتباع الهرم الغذائى السليم يعتمد على تناول لحم الطيور ليومين فى الأسبوع، ولحم الأسماك ليومين آخرين، وما تبقى من أيام الأسبوع يعتمد فيها على تناول البقوليات والحبوب الكاملة، بالإضافة إلى الخضروات، وتستند أيضا على توضيح المشكلات الصحية التى تنتج من كثرة تناول اللحوم الحمراء، رغم فوائدها كمصدر للحديد فى الجسم، فالمعروف أن تناول اللحوم الحمراء يرسب الكوليسترول على الأوعية الدموية، مما يشكل خطرا على القلب. وتشير د. فيفان أيضا لاعتمادها فى نشر دعوتها للمقاطعة إلى الإعلان عن هذه الدعوة فى كل تجمع تحضره أو تشارك فيه، لنشر الفكرة، وهى مرحلة مهمة من مراحل (تسويق الفكرة)، ثم تشجيع الآخرين على الإعلان عن انضمامهم للفكرة أيضا، مما يشجع آخرين على الانضمام للفكرة وتغيير (أو كسر) عادتهم الغذائية التى ليست بالأمر السهل. هنا تكمل د. عايدة أبو غريب- الأستاذ بالمركز القومى للبحوث التربوة والتنمية- قائلة : أتبنى أيضا مبادرة مقاطعة اللحوم بعد أن لمست ارتفاعها الجنونى المتزايد، لكنى أعتمد فى نشر الفكرة على قيمة تربوية نفتقدها، هى أن كلا منا يجب أن يشارك فى مواجهة جشع التجار بإيجابية، حتى إن كان بعضنا يستطيع شراء اللحم، فيجب أن يتوقف عن الشراء الآن برغبته قبل أن يضطر إلى ذلك عندما ترتفع أسعار اللحوم بما يفوق قدرته على الشراء ، ففى هذه اللحظة قد اضطر البعض للتوقف عن شرائها رغما عنهم، بعدما عجزوا عن توفير ثمنها، وأتحدث بفخر عن أنى أقاطع اللحم لارتفاع أسعارها، وأن تجربتى يمكن تكرارها بسهولة، لأشجع الآخرين على تقليدها، وأتحدث بفخر أيضا عن تجربة مقاطعة جمعية سيدات المعادى للحوم، والتى أدت بالفعل خلال شهر أو شهرين إلى خفض أسعار اللحوم ونجحت الحملة، التى أتحدث عنها باعتبارها عملا وطنيا.؟ نقابة الأطباء وجمعيات أهلية تتبنى مقاطعة اللحوم بدأ عدد من جمعيات حماية المستهلك ونقابة الأطباء حملة جديدة هذا الأسبوع لمقاطعة اللحوم الحمراء تستمر حتى يوم 21 أبريل. وقال محمود العسقلانى، المتحدث باسم حركة «مواطنون ضد الغلاء» : إن «الحملة الحالية موجهة للأغنياء فقط لأن الفقراء مقاطعون اللحم بالفعل بسبب ارتفاع الأسعار» موضحا أن عددا كبيرا من جمعيات حماية المستهلك بدأت تقود حملة توعية من خلال عدة زيارات لنوادى الروتارى والليونز، لتوصيل رسالة للطبقة القادرة على شراء اللحوم بضرورة التضامن مع الفقراء. ودعا العسقلانى المواطنين الذين يريدون شراء اللحوم بالتوجه للمجمعات الاستهلاكية التابعة للدولة لأن سعر كيلو اللحم 35 جنيها وهى لحوم بلدى مبردة. فى حين أكدت المهندسة عنان هلال، رئيسة جمعية عين مصر لحماية المستهلك، والتى دعت لحملة مقاطعة اللحوم منذ 6 أبريل الماضى ولمدة شهر أن ازدياد دعوات المقاطعة من شأنه أن يسلط الضوء عليها. وأضافت عنان: «الإعلام هو أفضل وسيلة لتوعية المستهلكين''، مشيرة إلى أنها تلقت العديد من رسائل التضامن مع الحملة من جمعيات حماية المستهلكين فى جميع المحافظات، والذين أكدوا مشاركتهم فى الحملة. أما نقابة الأطباء فأطلقت بيانا لمقاطعة اللحوم وزعته على وسائل الإعلام وعلى موقعها على الإنترنت، وقال الدكتور سعيد سيد، عضو مجلس النقابة: إن النقابة أبدت تضامنها مع حملات المجتمع المدنى بعد الارتفاع الجنونى لأسعار اللحوم، وأنها وجهت الدعوة لكل أعضائها للمشاركة فى حملة المقاطعة للحد من ارتفاع الأسعار. وأوضح البيان أن المقاطعة لن تؤثر على صحة المواطنين بل قد يكون لها فوائد صحية فى حماية أجهزة الجسم من الإرهاق وتؤدى إلى راحتها واستعادة نشاطها خاصة الجهاز الهضمى والكبد والكلى والمسالك البولية، وهناك بدائل للبروتين الحيوانى من الألبان ومنتجاتها والبيض والبروتينات النباتية عالية القيمة الغذائية مثل البقول والخضر والفواكه.