بتثاقل وخوف وربما بالكثير من التردد اقتحمت الكثير من الأسر المصرية تجربة مقاطعة اللحم الأحمر، التي ربما تخوضها للمرة الأولي، وينجح الكثيرون في الامتحان الذي اختاروا اجتيازه بإرادتهم، وإن تعثر البعض خلال الطريق ثم عاود المسير. لتتحول الجلسات العائلية ولقاءات الأصدقاء إلي فرصة لنقل التجربة ووسائل إقناع أفراد الأسرة بالصمود أمام إغراء اللحم، وبعد مرور الشهر الأول تتحول نفس الجلسات إلي فرصة لتأمل التجربة ونتائجها، التي تعدت مجرد الامتناع عن تناول نوع من الطعام إلي ماهو أبعد بكثير.. ابتسمت زوجة الابن وهمست لحماتها : لم أكن أتصور أن (خالد) يمكن أن يتناول المكرونة والسلاطات والتونة دون لحم، بعد شهر فقط من قرار الأسرة مقاطعتها. وبادلتها الحماة ابتسامة أكبر وهمست: عندك حق، لكن أنا أعرف ابني جيدا، هو يقاطع اللحم معنا، لكن لابد أنه من حين لآخر يأكل الشاورمة أو ساندوتشات السجق مع أصدقائه، لكن هذا لايعني عدم ايمانه بالفكرة، فكان يمكنه الاعتراض، وهو غير مضطر للتظاهر بالمقاطعة، هو يحاول فلم يعد يأكلها بنفس المعدل السابق، لكنه لن يستطيع الاستغناء عنها مرة واحدة، فهي بالنسبة له ادمان، وعليه أن (يسحب) أثرها من جسده علي مراحل، هو لم يقل لي ذلك لكني أعرف. وهنا قال كبير العائلة - والد خالد - قراركم بالاستغناء عن اللحم، منحني القوة في تطبيق نصائح طبيبي بعدم تناول اللحوم الحمراء من أجل الحفاظ علي عملية القلب التي أجريتها منذ عامين، وكنت اضعف عندما أراها علي المائدة، وآخذ قطعة رغم أن أم خالد كانت تحرص علي أن تصنع لي طعاما خاصا مكونا من اللحوم البيضاء، لكن النفس تكون أمارة بالسوء أحيانا، خاصة عندما تكون اللحمة قريبة التناول وذكية الصنع والرائحة من يد أم خالد، والآن أشعر أن صحتي أفضل وأن قدرتي علي التنفس أعلي، «حاسس أن جسمي نضف زي ما بتقول الست مريم نور بتاعت المايكروبيوتك». ويكمل : لا أفكر الآن ما إذا كانت مقاطعتنا للحم ستساهم في تخفيض أسعاره أم لا، أو أن مبادرة الأسر المقاطعة لن تؤتي ثمارها مادامت الأغلبية لم تقاطع، أو أن الكثيرين قبلنا قد قاطعوها عندما عجزوا عن شرائها وظلت الأسعار في ارتفاع رغم ذلك، فالمهم أننا استطعنا أن ننتصر علي (عشق) اللحم وإغرائها، بما يعني أنه يمكننا أن ننتصر علي أي عادة مهما كان إغراؤه.. ونظر إلي أم خالد وضحك.. وضحك الجميع. - الانتصار علي البشاير الحاجة فوقية التي دخلت مقاطعتها للحم شهرها الثاني اكتشفت فائدة أخري في مقاطعة اللحم، غير أنها وفرت 500 جنيه من ميزانية البيت، هي حاصل طرح (1200) جنيه كانت تذهب شهريا إلي شراء اللحم بما يكبر ربع دخل الأسرة تقريبا (معاشها ومعاش زوجها وما يساهم به الابن الأكبر)، مطروحا منها قيمة ما أنفقته علي شراء بدائل اللحم، ومنها الدجاج والسمك وغيرها. تتأمل الحاجة كيف أنها استطاعت أن توفر الكثير لشراء قدر أكبر من الفاكهة التي كانت تكتفي منها بالقليل، وأنه يمكن لمقاطعة أي صنف ارتفع سعره لأي سبب استبداله بأشياء كنا نهملها، وأنه لا داعي لشراء خضار أو فاكهة بعينها حين تكون مرتفعة السعر في بداية موسمها، ففي نفس الوقت سيكون هناك أنواع أخري أرخص لأنها في أوج موسمها، وأنها يمكن أن تتخلي عن التفاخر بأنها طبخت الملوخية (البشاير) أي في بداية موسمها، كما كانت تفعل حين كانت تدعو أسرة أختها لمشاركتهم الغداء في أيام الجمع، وأنها يمكن أن تعلن دون خجل وفي أي وقت أنها تقاطع السلع البشاير، خاصة أن اكتمال نضج أي خضروات أو فاكهة يكون في منتصف موسمها، حين تكون قد كثرت وانخفض سعرها. الاستغناء عن اللحم لم يجعل الحاجة فوقية تهتم بالخضروات والفواكه بشكل أكبر فقط، بل امتد للاهتمام بأشياء أخري كما تقول: أصبحت أهتم أكثر بوجبة العشاء علي غرار سحور رمضان، أحرص علي شراء كمية أكبر من معدل الألبان التي كنا نستهلكها، وأصنع من بعضها زبادي (في البيت)، لأني أعرف أنه مصدر مهم للبروتين والكالسيوم، كنا كثيرا ما نستغني عنه، خاصة أن أغلب أولادي يكتفون بوجبة الغداء الرئيسية، لكن الآن يحرصون علي تناول الزبادي والفاكهة كوجبة عشاء افتقدناها طويلا. «والله مابقينا نفكر في اللحمة» هكذا انطلق عبد الفتاح إسماعيل- رب الأسرة ورئيس العمال بأحد المصانع الكبري- وأكمل : أكثر أكلنا مركز علي البقول والخضروات، وبصراحة التوفير ده جه في وقته، لأننا في نهاية السنة الدراسية، والمدرسين بيضاعفوا الحصص عشان المراجعة، يعني الشهر بشهرين، وكنت باحس كل سنة بزنقة في الأيام دي، وأهي جات من عند ربنا. وتأخذ الكلمة زوجته (هدي) قائلة: أنا معايا الدبلوم وعارفة إن اللحمة مهمة عشان العيال لسه بيكبروا، لكن الأزمة دي خلتني أسأل عن الأكل المفيد والبديل للحمة، وعرفت أن الباذنجان فيه حديد وبروتين قريب من اللحم، وأنه بعد ما يتقلي في الزيت السخن قوي عشان مايشربش زيت كتير، ممكن نحط عليه خل عشان يكسر الزيت اللي فيه وما يتعبش العيال في الهضم، أكلات كتيرة كنا ناسينها رجعنا لها تاني زي البصارة والشكشوكة وغيرها، رجعتنا للأيام الحلوة بتاعة زمان». - الحقيقة الضائعة «مشكلتي أني من متذوقي الطعام، يعني يمكنني أن أكتشف أي تغير ولو بسيط في طعم أي صنف يقدم لي بخلاف أي فرد آخر من أفراد أسرتي أو زملائي، وكنت كثيرا ما أشعر بتغير طعم اللحم، مرة بعد أخري عن الطعم البلدي الذي اعتدت عليه، وكان الجزار ينكر الامر في كل مرة، وعندما أحتج يعطيني لحما جيدا بالفعل، ثم يفعل الامر نفسه بعد مرتين يعطيني فيها اللحم الجيد، وكان يؤكد لي في كل مرة أنه يأتي باللحم من نفس المصدر، الي أن كشفت المقاطعة عن المستور'' هكذا بادرنا عز الدين عبده - مدرس الفيزياء بإحدي المدارس الثانوية بشبرا- الذي اعتاد أن يشتري متطلبات أسرته بنفسه ليطمئن إلي مصادرها، ويكمل: وللاسف كنت أشعر بالعجز في كل مرة لأني لا أستطيع الوصول إلي الحقيقة أو التأكد من شكي في تغير مصدر اللحم، خاصة أن السيناريو نفسه كان يتكرر مع كل جزار جديد يصفه لي الزملاء، فأجدني أعود الي صاحبنا - جزاري - مرة أخري ليفعل بي نفس الأمر، للدرجة التي دفعتني في احدي المرات الي التخلص من باقي كيلوات اشتريتها بعد أن تأففت من رائحتها بعد الطهي، لكن مقاطعتي للحم جعلتني أتابع تطورات الامر في وسائل الإعلام، واكتشفت الحقيقة التي أعلنها أحد المسئولين علي الملأ بأحد البرامج، حين أكد أن نصيب الجزارين من اللحم المستورد الحي يبلغ الثلث تقريبا، لكن بعد أن يبقي العجل - لامؤاخذة - لمدة شهر يأكل من العلف المصري تحت سماء الاجواء المصرية، وهنا يذبح بالمذابح الكبري مثل العجل البلدي. يبتسم عزالدين سخرية ويضرب كفا بكف ويتابع : اكتشفت أيضا لماذا كان يصر الجزار علي (تشفية) الجزء المجاور للأختام من اللحم الذي كنت أشتريه، رغم طلبي المتكرر منه أن يترك اللحم دون تشفية لأني أريد أن أخصصه للشواء الذي يحتاج لأن يكون اللحم محاطا بالدهن والجلد حتي لا يحترق، ليعلن مسئولون علي الملأ أيضا أن نسبة غير قليلة من الأختام المستخدمة في المجازر (مسممة)، ولولا الأزمة والحديث عن المقاطعة لما اعترف المسئولون بهذه الأمور، وبأن كل لحوم المطاعم والفنادق من اللحم المستورد، ولبقيت الحقيقة.. ضائعة.