من العلامات الأساسية التى تتعلق بشهر رمضان، يأتى الفانوس فى مقدمة هذه العلامات والإشارات التى لا يكون رمضان حقيقيا وشعبيا من دونها، وعندما كنا أطفالا، كنا فور إنبائنا بحلول شهر رمضان فى ليلة الرؤية، كما نقول عنها هنا، أو ليلة الشك كما يطلق عليها المغاربة، نسارع بحمل فوانيسنا المصنوعة من الصفيح المعشق بالزجاج السميك، وكان هذا الزجاج ملونًا بطريقة كثيفة، وكانت اليد التى نحمل من خلالها الفانوس عبارة عن حلقة من الصفيح كذلك، وكان للفانوس باب نفتحه ونغلقه، حتى ندخل فيه الشمعة الموقدة، وكان سقف الفانوس مفتوحًا، وكان لهيب الشمعة يتصاعد، فيسبب لنا نحن الصغار درجة ملموسة من الحرارة، فنظل نغير وضع الفانوس من اليد اليسرى إلى اليد اليمنى، ونحن منهمكون فى إنشاد الأغنية الخالدة: «وحوى يا وحوى.. إياحة»، وكنا نطرق الأبواب حتى نحصل بالفعل على نفحات متنوعة، بعضها يرقى إلى نقود قليلة، يعطيها لنا الجيران فى مرح وبهجة طاغيتين لقدوم هذا الشهر الكريم، وظلت صناعة الفوانيس تتطور جيلا بعد جيل، حتى أصبح الفانوس مجرد رمز لحلول الشهر، وظل المسلمون متمسكين بوجوده ضمن الاحتفالات الرمضانية العديدة، وأخذت صناعته تتبدل وتتغير وتتنوع، حتى أصبح الفانوس مجرد زينة فقط، يحرص الصغار والفتيان على جلبه لمجرد أنه رمز رمضانى عريق، ولأنه أصبح سلعة منتشرة، ومضمونة البيع والتداول، فذهب الصينيون إلى صناعته وتصديره وبيعه بكميات مهولة، بينما راح يفقد فى موطنه أصول صناعته، وتغيرت الشمعة إلى لمبة كهربائية، تعمل بالبطارية، ولن يحتاج الأطفال إلى باب تدخل منه الشمعة الملتهبة، ولكن بمجرد تحريك قاعدة الفانوس يمينا ويسارا، يضىء الفانوس أو ينطفئ، وكذلك فقد هذا الفانوس وظيفته الرمضانية ليصبح إشارة فاترة لوجود رمضان، واختفت تجمعات الأطفال التى كانت تدور فى الحى أو فى القرية، لإحداث هذا النوع من الفرح والمرح اللذين كانا ينبعثان من هذه الطاقات الطفولية البريئة، ولكن هذا الفانوس الذى عبثت به الأيام له قصة قديمة، وأعتقد أن الأجيال تناولتها وتداولتها كثيرًا، والأقلام كتبت عنها كثيرًا، وربما تكون الإفادة فى الإعادة كما يقولون، وربما تسقط بعض مفردات القصة من جيل إلى جيل، أو تنحرف عن أصلها، لذلك فالتذكير بأصل القصة يقربنا من فهم حقيقة ظاهرة الفانوس. يعود تاريخ قصة الفانوس إلى العصر الفاطمى فى القرن الرابع الهجرى، هذا القرن الذى يعد من القرون المركزية فى تاريخ المسلمين، وللتاريخ أحكام وحكم، ففى عز زهو الدولة الفاطمية، أرادت أن تغزو البلاد المصرية، وكان ذلك فى أول شهر رمضان، وبالتحديد فى عام 358 هجرية، وكان الفاطميون يتفاءلون بهذا الشهر، وكان لديهم اعتقاد بأن هذا الشهر يجلب لهم النصر والخير دومًا، فكانت احتفالاتهم فريدة من نوعها، وتعود معظم المباهج التى تسود خلال هذا الشهر إلى الفاطميين، وبعد أربعة أعوام من وجود الفاطميين فى مصر، كانوا قد أكملوا بناء «مدينة» القاهرة، حتى تصبح عاصمة للدولة الإسلامية، ومقرًّا للخليفة، وفى يوم 5 رمضان من عام 362، دخل الخليفة المعز لدين الله الفاطمى إلى أرض مصر، وعندما وصل إلى أبواب القاهرة الفاطمية، كان الوقت ليلا، وكان قادما من ناحية الجيزة، ويسير فى موكب مهول، وحينئذ خرج الناس فى حشود كبيرة، ليستقبلوا هذا الخليفة القادم من بعيد، واحتشدوا فى أشكال احتفالية على طول الطريق من منطقة الجيزة، حتى منطقة الجمالية، وكانوا يحملون الشموع الكبيرة والمشاعل والمباخر والفوانيس، حتى يتسنى لهم إضاءة الطريق الذى سيسير فيه الخليفة، حتى يصل إلى قصره، وكانت هذه الوسائل الإضائية هى الوحيدة فى ذلك الزمان، ليستعين بها الناس على قهر الظلام الدامس الذى يعمّ البلاد، ومنذ ذلك التاريخ، كما تحكى المراجع، وينقلها لنا الكثيرون، ومنهم خليل طاهر، فى كتابه «شهر رمضان.. منذ فجر الإسلام إلى العصر الحديث»، أصبحت الفوانيس ترتبط برمضان ارتباطا شبه شرطى وضرورى كما أسلفنا القول، وكان حاملو هذه الفوانيس عادة من الأطفال، إذ إنها من الأدوات المحببة، وظلت فى إطار هذا الزمن القديم تتطور بشكل بطىء جدا، حتى تصل إلى عصرنا هذا الذى أصبحت صناعة الفوانيس، ليست حكرًا على مستخدميها، بل أصبحت أداة فى يد مَن يستطيع أن يدير رأسماله بشكل أفضل، وفى ذلك الزمان القديم لم يكن الأطفال يخرجون بالفوانيس فقط لجمع النفحات، بل كانوا يحملون هذه الفوانيس ليضيئوا الطريق لذويهم من الأهل والجيران وقت خروجهم ليلا للفرجة على قصر الخليفة الفاطمى، أو عندما يزورون الأهل والأحباب والأصدقاء والجيران، حيث إن شهر رمضان تكثر فيه الزيارات، على اعتبار أن هذا الشهر، هو شهر مودة ورحمة ومسامحة، ثم تطورت فكرة الفانوس، وتطورت وظيفته بشكل آخر، ليسير الأطفال يحملونه، وهم يطلقون الأغانى والأهازيج والأناشيد، ويحدث قبيل حلول رمضان أن تنتشر الفوانيس فى الأسواق، وأول سلعة كان الناس يفكرون فى شرائها هى الفانوس، ربما قبل الياميش وما شابهه من علامات رمضانية، وكانت أسواق «الشماعين والفوانيسية»، منذ العصر الفاطمى، هى التى تروج تجارة الفوانيس، ليشتريها الأهل، وليحملها الأطفال فى أول بدء إعلان حلول الشهر، ومع الفانوس ولدت أغنية: «وحوى يا وحوى»، التى سنتحدث عن أصلها فى التراث المصرى والعربى والإسلامى، وانبثاقها من الموهبة الجماعية أو من الوجدان الجمعى، على غرار العقل الجمعى كما يقول علماء الاجتماع.