أعترف أن هواجس «الإسقاط السياسى» طاردتنى وأنا أقرأ بيان بونابرت، وبذلت جهدًا مضنيًا حتى أطرد من ذهنى أوجه الشبه بينه وبين بيان بوش، تعليقا على إنهاء العمليات العسكرية فى العراق، وتذكرت الوعود الكاذبة التى بشرت العراقيين بالديمقراطية والرخاء، بعد تخليصهم من حكم صدام ومماليك البعث! وتذكرت أيضا بيانات الإخوان قبل وبعد «30 يونيو»، وطريقتهم المزدوجة فى مخاطبة الداخل بكلام، والخارج بكلام آخر، فقد اكتشفت أن هناك خلافات طفيفة بين النصين العربى والفرنسى لبيان بونابرت، فالنص العربى تضمن عبارات لم ترد فى النص الفرنسى، مثل «أن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون»، مما يوضح أن بونابرت كان يقصد استغلال الدين واستمالة الشيوخ، ولا يؤمن حقيقة بأى دين، ويبدو هذا من رسالة كتبها بعد وصوله إلى القاهرة، يقول فيها لكليبر الذى بقى فى الإسكندرية لتأمينها: «إننا إذا كسبنا تأييد كبار شيوخ القاهرة كسبنا الرأى العام فى مصر كلها، فليس بين زعماء الأمة كلهم من هو أقل خطرًا علينا من الشيوخ، فهم جبناء عاجزون عن القتال، يوحون -كجميع رجال الدين- بالتعصب للوطن دون أن يكونوا هم أنفسهم متعصبين». كان نابليون قد شق طريقه نحو القاهرة بسهولة، باستثناء مناوشات خفيفة، فهزم جيوب المقاومة فى شبراخيت، كما هزم قوات مراد بك فى معركة إمبابة، التى يطلق عليها بعض المؤرخين معركة «الأهرام»، لأن الأهرامات كانت تبدو واضحة عند إمبابة، لذلك قال نابليون وهو يخطب فى جيشه: أيها الجنود إن أربعين قرنا تطل عليكم من قمة هذه الأهرامات. فى صباح اليوم التالى اجتمع فى الأزهر بعض العلماء والمشايخ، بعد أن وصلت إلى أيديهم نسخ من بيان نابليون تطمينا لهم، وكما يقول الجبرتى «وصل هذا المكتوب مع جملة من الأسرى من كفار مالطة، الذين جاؤوا إلى بولاق قبل وصول الفرنسيس، ومنهم مغاربة وفيهم جواسيس، يتكلمون اللغات. اجتمع المشايخ ولم يكن الغزاة قد عبروا النيل إلى القاهرة بعد، وتباحثوا فى الأمر، واتفق الرأى على أن يبعثوا برسالة إلى الفرنسيين يسألونهم عن مقاصدهم ثم يرون ماذا يكون الجواب، وأرسلوا الرسالة مع تاجر مغربى يجيد الفرنسية وآخر مصرى»، وحسب تعبير الجبرتى «قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة، فقرأها عليه ترجمانه، ومضمونها الاستفهام عن قصدهم، وسأل نابليون على لسان الترجمان: وأين عظماؤكم ومشايخكم؟ لماذا تأخروا عن الحضور إلينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة؟ وطمأنهم وبشّ فى وجوههم. فقالوا: نريد أمانًا منكم. فقال: أرسلنا لكم سابقا ببيان الأمان. قالوا: لا مانع من التأكيد لأجل اطمئنان الناس. فكتبوا لهم ورقة أخرى صاغها الجنرال ديوبى (الحاكم العسكرى للقاهرة فى ما بعد) مضمونها: من معسكر الجيزة لأهل مصر: أرسلنا لكم فى السابق كتابا فيه الكفاية، وذكرنا لكم أننا ما حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار، وأخذ مال التجار ومال السلطان، ولما حضرنا إلى البر الغربى خرجوا إلينا فقابلناهم بما يستحقونه، وقتلنا بعضهم وأسرنا بعضهم، ونحن فى طلبهم حتى لم يبق أحد منهم بالقطر المصرى، وأما المشايخ والعلماء وأصحاب المرتبات والرعية فيكونون مطمئنين وفى مساكنهم مرتاحين إلى آخر ما ذكرته، ثم قال لهم: لا بد أن المشايخ والشربجية يأتون إلينا لنرتب لهم ديوانا ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور. ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس، وركب الشيخ مصطفى الصاوى والشيخ سليمان الفيومى وآخرون إلى الجيزة. فتلقاهم وضحك لهم، وقال: هل أنتم المشايخ الكبار؟ فأخبروه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا (هذا كلام الجبرتى). فقال: لأى شىء يهربون؟ اكتبوا لهم بالحضور، ونعمل لكم ديوانا لأجل راحتكم وراحة الرعية وإجراء الشريعة، فكتبوا عدة مكاتبات بالحضور والأمان، ثم انصرفوا من المعسكر بعد العشاء، وحضروا إلى مصر فاطمأن برجوعهم الناس، وكانوا فى وجَل وخوف على غيابهم، وفى الصباح أرسل بونابرت مكاتيب الأمان إلى المشايخ فحضر الشيخ السادات والشيخ الشرقاوى ومعظم المشايخ، ومن انضم إليهم من الفارين ناحية المطرية، أما عمر أفندى نقيب الأشراف (عمر مكرم) فإنه لم يطمئن، ولم يحضر هو وعدد من الأفندية». وبدأت القصة تأخذ مسارًا جديدًا!