لم يُظلم زعيم من معاصريه ومِن الذين جاؤوا بعده، مثلما ظُلم الزعيم أحمد عرابى من المؤرخين والزعماء والقادة والمفكرين، وكان مجرد ذِكر اسم عرابى يستدعى معه كوارث الاحتلال الإنجليزى، والإذلال الذى سببه هذا الاحتلال للشعب المصرى، وحاول البعض ترويج فكرة أن أحمد عرابى كان يفعل كل ذلك من أجل مطامع شخصية، ومع الأسف قاد هذه الأفكار الزعيم مصطفى كامل الذى كان يتهم عرابى جهارا نهارا، وفى أى مناسبة تأتى فيها سيرة عرابى، وهذا لمجرد أن الزعيم عرابى كان مناوئا ومتمردا وثائرا على العائلة الخديوية، وأسرة محمد على، خصوصا الخديو إسماعيل والخديو توفيق، الأول كان فاسدا ومبذّرا وسفيها، وعمل على تخريب ميزانية مصر تحت شعار «أوروبة مصر»، أى جعلها قطعة من أوروبا، فراح يصرف ببذخ ودون أدنى مسؤولية، حتى استدان، ووضع مصير مصر الاقتصادى ثم السياسى تحت تصرف إنجلترا وفرنسا، ومن كوارث إسماعيل أنه قلَّص من نفوذ المصريين فى الجيش المصرى، وجعل للروم والشركس نفوذا كبيرا داخل الجيش، ومنع كل أشكال الترقية عن المصريين، وقصرها على الروم والشركس، للدرجة التى حاقت بوضعية أحمد عرابى الذى ظل 19 عاما فى رتبة «القائمقام»، مما فجّر غضب الضباط بقيادة عرابى وصحبه، لكن أدّت هذه السياسات الخديوية إلى تدخل الدولتين الدائنتين فى شؤون البلاد المصيرية. والثانى وهو الخديو توفيق كان رجلا مشعوذا، ويؤمن بالخزعبلات، ولذلك لم يكن الحاكم الحاسم الذى يقى البلاد من الشرور التى حاقت بها فى الداخل والخارج، لذلك كان ولا بد من هذا الانفجار الذى قاده عرابى ضده ببطولة وبسالة نادرتين، وكانت حركة عرابى هذه هى أولى دخول الجيش المصرى فى المعادلة السياسية بقوة، لكن المؤامرات الداخلية والخارجية ظلت تحاك لعرابى ولحركته ولأهدافه، حتى انهزم بعد سلسلة خيانات، ويكفى أن يرسل الخديو توفيق نفسه رسالة إلى محافظ الإسكندرية، يحذّره فيها من نفوذ عرابى، وينصحه بالتصدى له، ثم خيانة محمد سلطان باشا -والد هدى هانم شعراوى رائدة الحركة النسائية- واتفاقه مع بدو الشرقية مثل عائلة الطحاوى وعلى خنفس، وتضليل الجيش لإيقاعه فى قبضة الإنجليز، وتظل الشائعات تلاحق عرابى فى حياته وبعد رحيله، ولا تجد مدافعين عنه سوى أصدقائه الأجانب، مثل المحامى الإنجليزى برادلى الذى كان محاميه أمام محاكمته الظالمة، وكتب كتابا بعد ذلك عنوانه «كيف دافعنا عن عرابى وصحبه»، وترجم هذا الكتاب ونشر منذ زمن بعيد فى الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم صديقه الآخر بلنت، وهو الذى تحمَّس وراح يكتب كتابه المهم «التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزى لمصر»، وترجمته جريدة «البلاغ» فى ثلاثينيات القرن الماضى بإشراف الصحفى الكبير عبد القادر حمزة، عدا ذلك كانت الأصوات المدافعة قليلة وخافتة، مما أخرج ابنه عبد القادر عن صمته، وهو أصغر أبناء الزعيم، وعندما مات أبوه كان عبد القادر فى الثامنة من عمره، وأعتقد أننا قرأنا مئات الشهادات والتحليلات والاتهامات فى شأن عرابى من اللورد كرومر التى ترجمها الابن الثانى لعرابى، وهى شهادات عبد العزيز وأحمد لطفى السيد ومصطفى كامل والشيخ محمد عبده إلى عبد الرحمن الرافعى الذى ظلمه وأهانه ومحمود الخفيف، وهناك رواية عظيمة للكاتب أبو المعاطى أبو النجا عن عبد الله النديم، يرصد فيها الثورة العرابية فى شكل درامى، وهناك ملحمة شعرية للشاعر عبد العليم القبانى، وهناك مسرحية «هوجة الزعيم» للكاتب محمد أبو العلا السلامونى، لكننا لم نتعرَّف على وجهة نظر ابنه عبد العزيز الذى سجَّلها فى مجلة «البلاغ» الأسبوعية على فصلين مسهبين، نشرهما فى عددين تاليين بتاريخ 17 و24 يونيو عام 1927، وأوضح عبد العزيز أنه لا يدافع عن عرابى بصفته الابن، لأن أحمد عرابى هو ملك لجميع المصريين، ولذلك فهو يكتب عنه بصفته المواطن المصرى الذى يعرف عن أبيه أكثر قليلا من الآخرين، وأوضح عبد القادر أن هناك مذكرات لعرابى تتضح فيها الرؤية كاملة للأحداث والخيانات والنجاحات والإخفاقات التى مرّت بها الثورة العرابية، وهناك فى هذه المذكرات رسائل من محبين وعاطفين على الثورة نفسها من داخل العائلة الخديوية، وعلى رأس هذه الرسائل رسالة حرم المغفور له سعيد باشا والى مصر البرنسيس إنجى هانم، وقد كتبتها الأميرة إلى المستر برودلى، محامى عرابى، فى 15 ديسمبر 1882، وهو ينشرها كما هى دون أى تصحيحات أو تنقيحات، واستهلتها بالكلمات التالية: «أنتهز هذه الفرصة، لأن أصرح لكم بأن بلاد مصر تشرَّفت بمجيئكم إليها، وأنا وجميع أهلها الأحرار مسرورون من أعمالكم، لأنكم دافعتم عن الإنسانية والعدل، ونحن المصريين نبتهل إلى الله فى كل أيام حياتنا أن يهنئكم، وينجح مقاصدكم، ونرجو العدل والشفقة يحكمان هذه البلاد، وهذا بدفاعكم عن أبناء مصر الذين سعوا لخيرها ودافعوا عنها»، وبقية الرسالة تفصح فيها الأميرة عن تعاطفها الشديد مع البطل أحمد عرابى، وينشر عبد القادر عرابى رسالة أخرى من حضرة صاحبة الدولة الأميرة نازلى هانم، إلى عرابى فى 27 ديسمبر 1988، وهى صاحبة الصالون الذى كان يحضر فيه رموز الثقافة والسياسة والفكر فى مصر، مثل الشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأحمد لطفى السيد وحفنى ناصف ومحمد حسين هيكل وآخرين، وتبدأ نازلى الرسالة لعرابى بقولها: «إن صلواتى ومرغوباتى الخيرية ترافقكم حيثما توجهتم، وأننى آمل أن تكونوا مبسوطين وناجحين فى المحل الجديد الذى أنتم ذاهبون إليه.. يلزم أيضا أن تفرح وتتهلل، لأن مقاصدكم الخيرية نحو بلادكم ستتم جميعا، وأن الفلاح سيستريح عن قريب ويبطل الاستبداد»، وكذلك ينشر إحدى رسائل بلنت الذى يقدّر دور عرابى باحترام شديد، وكان عرابى فى كل ذلك يحمل مسؤولية جسيمة تجاه ترسيخ مبدأ الدفاع المطلق عن الوطن دون استسلام أو هوادة، حتى كسرته الخيانة، وأفسدت عليه مقاصده.