العنف ضد المرأة الذى يمس كيانها المعنوى وتكاملها الجسدى يمثِّل ظاهرة قديمة ومستمرة بما يشير إلى اختلالات فى النظم الاجتماعية والدينية والسياسية والتعليمية، وفى أنساق القيم والأخلاقيات السائدة التى يتغير بعض مكوناتها بين مرحلة تاريخية وأخرى، ومع ذلك لا تزال ذات الظاهرة مستمرة فى غالب مكوناتها، وتتغير بعض أشكال وصور العنف والانتهاكات العنيفة وطابعها الاستعراضى على نحو ما ظهرت بوادره الأولى فى حادثة فتاة العتبة ذائعة الصيت التى تمت فى إحدى أمسيات شهر رمضان، فى إحدى عربات النقل العام وأمام الركاب، ولا مبالاتهم، وهو ما شكَّل واقعة صادمة فى التاريخ الأسود والمؤلم للتحرش وهتك العرض.. إلخ، وتتتالى وتتنامى هذه النزعة الاستعراضية إزاء الجسد والكرامة الأنثوية الجريحة. إن وراء ذلك عوامل أخرى نذكر منها ما يلى: 1- الذكورية السياسية التى تشكل ثقافة الدولة والنخب السياسية الرسمية والمعارضة، وسلطات الدولة وأجهزتها المختلفة، والاستثناءات محدودة، وذلك رغمًا عن ظهور الدولة والحكم فى العقود الأخيرة بوصفهما مدافعين عن حقوق المرأة لاعتبارات تتصل بهيبة الدولة وصورتها فى الإعلام الدولى وأجهزته، والإدارات السياسية الغربية وفى شمال العالم، فضلا عن المنظمات الدولية. 2- ذكورية الفكر الدينى المصرى- الإسلامى والمسيحى، على مستوى التنشئة الدينية، وفى إطار تنشئة اجتماعية ذكورية -بطريركية تقليدية ومحدثة- لا تزال تقدم حقوق المرأة من المنظور التقليدى الفقهى الإسلامى، واللاهوتى المسيحى الأرثوذكسى، الذى يتسم بذكورية فى تشكلهم وتطورهم التاريخى، ولم تحدث تغيرات عميقة فى بنياتهم وخطاباتهم وتعاليمهم وفتاواهم وآرائهم، ولا تزال هذه النظرة مستمرة، رغم بعض التطور النسبى لوضعية المرأة ودورها الاجتماعى وتنامى حضورها السياسى الواقعى. بعض التعاليم، والخطاب الدينى الإسلامى، حول المرأة لا يزال يتسم بالجمود والتزمُّت والخلط بين الموروث الدينى الفقهى والاجتماعى إزاء المرأة وحقوقها ودورها، وهى أقرب إلى تقاليد وأعراف اجتماعية موروثة، تضع القيود على المرأة وبعض حقوقها وحصر دورها فى نطاق نظام الأسرة، بل إن بعضهم يغالى ويضفى بعض السلبيات حال لعبها أدوارا فى المجال العام، وفى الوظيفة العامة، أو العمل فى القطاع الخاص، وأن ذلك يمثل مصدرًا لانتشار الفتن، وضعف الأخلاق والآداب العامة إلى آخر هذا النمط من الخطاب الدينى والأخلاقى والاجتماعى المحافظ والمتزمت، بل إن بعضهم بين الحين والآخر يطرح أفكارًا رجعية يربط فيها بين التدهور الأخلاقى العام -فى إدراكهم- وعمل المرأة، بل إن بعض المحافظين داخلهم يذهبون إلى ضرورة عودة المرأة للبيت حتى يمكن حل أزمة البطالة! قيلت هذه الآراء الرجعية مرارًا وتكرارًا، ولم تجد صدًّا ولا ردعا لها! 3- تدور خطابات بعض الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية والسلفية المتشددة حول جسد المرأة والربط بين ضبط الأخلاق العامة والسيطرة على جسد المرأة بوصفها لدى بضعهم مصدرًا للشرور الأخلاقية، وأنها محض آلة جنسية وأداة للمتع واللذات الجسدية!! هكذا! 4- انتشار المواقع الخليعة على الواقع الافتراضى، واتساع قاعدة استهلاك صورها وشرائطها وبعضها غير مألوف وغرائبى على نحو مكثف، وهو ما يشكل مصدرًا للإثارة الواسعة، ومن ثم استنفار دوافع «وغرائز» قطاعات ذكورية تسعى إلى إشباع رغباتها بعنف، وذلك من خلال ممارسة جرائم التحرش وهتك العرض والاغتصاب، التى ازدادت خلال العقود الماضية فى ظل فوضى اجتماعية، وضعف الوازعات الأخلاقية التقليدية، وغياب دولة القانون. 5- اتساع قاعدة تعليم المرأة -أيًّا كان مستواه أو رداءته- فى ظل ثورة المعلومات والاتصالات، أدى إلى انهمارات للصور حول أوضاع المرأة وتطورها على المستوى الكونى، ومن ثم تنامى المعرفة والوعى لدى بعض الفتيات والنساء حول حقوقهن ودورهن فى المجال العام، وخصوصية المجال الخاص، ورفض الأقنعة التى يحاول بعضهم فرضها باسم بعض التأويل الدينى المحافظ. الإدراك الجديد -لدينا- حول ضرورة رفض وكسر القيود على دور المرأة، بل وتحويل بعضهن نظام الزى من مجال الضوابط الاجتماعية والدينية، وإدخالها إلى نظام الموضة وإفقاده تبريراته لدى بعض مشايخ الحركة السلفية وجماعات الإسلام السياسى. من هنا نستطيع أن نصف موجات العنف الجنسى عمومًا داخل وخارج الأسرة وفى المجال العام، بأنها تشكل تعبيرًا عن تداخل عوامل وأسباب مختلفة، بينما الواقع الموضوعى يكشف عن هشاشة هذه المنظومة الأخلاقية التى يتم الدفاع عنها لفظيًّا وفى الخطاب العام. من ناحية أخرى لا أحد يسعى للبحث عن إجابة عن سؤال: لماذا لم يستطع هذا الخطاب السائد أن يقلل من منسوب جرائم التحرش وهتك العرض والاغتصاب؟ إلخ! والسؤال الثانى: لماذا لم يؤدِّ الخطاب الدينى، والخطاب الأخلاقى السائد ومعه خطاب المؤسسات الرسمية أو الجمعيات النسوية والجندرية المدافعة عن حقوق المرأة إلى تغيير فى الوعى العام، والذكورى إزاء المرأة، وتجاه ردع بعض الجانحين الذين ينتهكون حرمة وكرامة جسد الفتيات والمرأة المصرية وسمعتها من أشكال الانتهاك الجسدى أو المعنوى؟! والسؤال: لماذا فشل هؤلاء وخطاباتهم الجوفاء فى التعامل مع هذه المشكلة الخطيرة؟ سؤال آخر: هل تنجح دعوة الرئيس الجديد رئيسَ الوزراء لتشكيل لجنة وزارية ومن الأزهر والكنيسة القبطية وآخرين لبحث أسباب المشكلة وإيجاد حلول لها، فى التعامل مع هذه الظاهرة المركبة والمعقدة؟ هل ينجح هذا النمط من المقاربات فى مواجهة مشكلات معقدة أم أننا نحتاج إلى رؤية جديدة وسياسة للمواجهة أكثر تركيبًا فى مكوناتها وأبعادها؟!