صدر عن دار ميريت مؤخرًا كتاب جميل للسيناريست الراحلة نادين شمس، حمل عنوان «أنا المخرج»، وهو مكون من عشرة فصول، كل فصل عبارة عن شهادة لمخرج سينمائى يحكى عن خبرته مع الممثلين، تلك الشهادات كان قد سبق نشرها بنفس التسلسل بمجلة مختصة بفن السينما «الفن السابع»، كانت تصدر فى القاهرة فى أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، سوف تكتشف فى النهاية أن كل شهادة هى عبارة عن إجابة عن أسئلة محددة، ولكن المؤلفة قد فضلت التوارى خلف هذا الشكل، شديد القرب من تقنية «out of cadre» طبعًا بعد إزاحة الحالة الحوارية وإخفاء الأسئلة، ربما لإضفاء حميمية أكثر فى ما بين القارئ وكل مخرج، حيث تقلصت المسافة بينهما إلى أضيق حد، فبدأ كل مخرج كأنه المؤلف المباشر للفصل الذى يخصه، فيعرض آراءه بضمير المتكلم، بل إن بعضهم بدا كأنه فى تلك الحالة المحببة من الاستدعاء والاسترسال الحر. فى الحقيقة إن تلك الشهادات المطولة هى أقرب إلى منطق الكتب منها إلى المجلات، كأن نادين شمس كانت تتصور من البداية أن تلك الشهادات سوف يتم تجميعها فى شكل كتاب، شاءت الأقدار أن ترحل قبل أن تراه. المخرجون العشرة الذين ضمهم الكتاب هم محمد خان، وخيرى بشارة، وعلى بدرخان، ورأفت الميهى، وسعيد مرزوق، وشريف عرفة، ويسرى نصر الله، ورضوان الكاشف، وسمير سيف وكمال الشيخ، هؤلاء المخرجون كانوا قد شكلوا جيلاً عرف عند بداية ظهورهم بالموجة الجديدة، وكانوا ثورة فى المفاهيم فى حينه على جيل الرواد الذى سبقهم. اليوم تلَت هذا الجيل أجيال أخرى، ولكن هذا الجيل سيبقى صاحب الفضل الحقيقى فى معظم التطور الذى حدث فى فن السينما حتى يومنا هذا. من هنا تأتى أهمية ما قامت به نادين شمس من تسجيل وتوثيق لآراء هذا الجيل، لا سيما أنها اختارت أن تركز على موضوع فى غاية الأهمية بالنسبة إلى أى مخرج، ألا وهو العلاقة بين المخرج والممثلين، فالممثل هو الأداة أو الوسيط بين المخرج والمشاهد، فكيف لأى مخرج أن يعرض فنه دون ممثل، إذن عليه أن يختار من بين عديد من البدائل، الطريقة التى سيتبعها فى إدارة ممثليه، لكى يحصل على الأداء المحدد الذى سيتم تضفيره مع عناصر أخرى كثيرة فى سبيكة معقدة اسمها الفيلم، المسؤول الأول والأخير عن ضبط مقاديرها، ومن ثم مجالها الدلالى هو المخرج. كالعادة فى حالة توفر عديد من الآراء حول نفس الموضوع، لن يستطيع القارئ أن يمنع نفسه من المقارنة، بالعكس سوف يقوم القارئ بينه وبين نفسه بعمل ما يشبه القراءة العرضية للكتاب ككل، وأظن أن القراءة العرضية، إذا ما دفع القارئ لها، هى خبرة قراءة لا تخلو من متعة، سوف نلاحظ من خلال تلك الشهادات مجتمعة أن العلاقة بين المخرج والممثل محكومة بعديد ليس فقط من الاعتبارات، ولكن أيضا بعديد من المفاهيم، طبعًا على رأس تلك الاعتبارات التوازن النفسى بين المخرج والممثل، سنجد عديدًا من الآليات شديدة التعقيد التى قد يلجأ إليها المخرج لدفع الممثل إلى أداء محدد، حتى إن المخرج قد يلجأ إلى استفزازه مثلا، فدائما هناك شىء ما فى أداء الممثل هو ما يبحث عنه المخرج، الممثل يعرف ذلك، هذا الشىء فى أداء الممثل ربما لا يستطيع المخرج أن يصفه أو يشرحه بدقة، ولكنه يستطيع أن يختاره من بين عدة طرق للأداء، بكل تأكيد هذا هو السبب وراء إعادة التصوير مرات عديدة. فى الحقيقة، إن أكثر ما توقفت أمامه من خلال قراءتى هذا الكتاب، هو هذا الكم الكبير من المفاهيم الحاكمة للعلاقة بين المخرج والممثل، مثلا التصورات عن حدود دور الممثل ما بين كونه «مشخصاتيًّا» مثلا، لكونه من الممكن أن يغير شيئًا فى السيناريو، ولكن أكثر تلك المفاهيم إثارة لأى قارئ، ربما ستكون تلك التصورات والرؤى حول الفرق بين التمثيل كفن خاص بالسينما أو المسرح، إذ يبدو أن قدر هذا الجيل من المخرجين كان أن يجابه ذلك الصراع النظرى، وأن يوضح ويكرث لتلك الفروق، فكنا قد أدركنا لتوِّنا التمثيل للسينما، ولكننا كنا ما زلنا مثقلين بتاريخ طويل جدًّا، ربما يعود لبداية الخلق، من التمثيل للمسرح، تولى مخرجو هذا الجيل بالذات التنظير والنحت للمفاهيم التى توضح تلك الفروق، وهذا ما يضفى أهمية إضافية لمثل هذا الكتاب، هو يسد ثغرة فى المصادر التى تعنى بهذا الأمر، بل إنه لا توجد كورسات أكاديمية فى هذا الموضوع، إلا فى ما ندر، حتى يومنا هذا.