قبل رحيلها الصادم كانت كاتبة السيناريو والصحفية والصديقة ورفيقة الحياة والثورة نادين شمس قد انتهت تقريبا من إعداد كتابها السينمائى الأول الذى لم يزل بدون عنوان، والذى جمعت فيه سلسلة من الحوارات الاستثنائية التى أجرتها مع عدد من كبار مخرجى السينما المصرية حول فن التمثيل! وبالتحديد حول تجاربهم مع نجوم السينما المصرية وأساليبهم المختلفة فى إدارة الممثلين. لسنوات كان أصدقاء نادين شمس يحثونها على إصدار هذا الكتاب، ليس فقط لألمعية فكرته ومضمونه ولكن أيضا لعمق لتحليلاته وصدق حكاياته وقدرة المحاورة على استخراج كنوز من هذه الأسماء وعلى صياغة رواياتهم واسترسالاتهم بطريقة محكمة ومشوقة.
رحلت نادين شمس قبل أن ترى كتابها مطبوعا، ولكن زوجها وأصدقاءها يسابقون الزمن حاليا ليكون فى متناول القراء قبل ذكرى الأربعين.
قرأت هذه الحوارات قبل وأثناء وبعد نشرها عندما كنا نعمل سويا فى مجلة «الفن السابع»، وأعدت قراءتها مؤخرا بعد أكثر من عشر سنوات على نشرها، وتأكد يقينى بأنها عمل نادر سواء على مستوى القيمة أو المتعة.
لا أحب الكتابة عن الراحلين ولا كلمات النعى والتأبين، وأعتقد أن أفضل وسيلة لتذكر من رحلوا هى الاستفادة مما تركوه لنا من أعمال ومواقف وكلمات.
من هنا اسمحوا لى أن أشارككم بعض لمحات من هذه الحوارات المتوهجة التى كانت تضج بالحياة والطموح.
يضم الكتاب عشرة حوارات مطولة مع الأسماء التالية: كمال الشيخ، رأفت الميهى، على بدرخان، سعيد مرزوق، سمير سيف، محمد خان، خيرى بشارة، يسرى نصر الله، شريف عرفة، والراحل رضوان الكاشف.
الحوارات معا تشكل دراسة مطولة عن فن إعداد وتوجيه الممثل، والتنوع فى أعمار وأساليب هؤلاء المخرجين يعكس المدارس المختلفة فى توجيه الممثلين كما يعكس أساليب هؤلاء الممثلين أنفسهم.
وبما أن الكتاب يصعب تلخيصه وعرضه فسوف أكتفى اليوم بالحديث عن اثنين من هؤلاء النجوم وهما سعاد حسنى وأحمد زكى اللذان تحل ذكراهما هذه الأيام، وذلك من خلال عيون محمد خان وعلى بدرخان، اللذين صنعا العديد من الأفلام المتميزة لهذين النجمين.
فى بداية حواره يتساءل محمد خان:
«كيف حصل الممثلون الذين عملوا معى، رئيسيين أو ثانويين، على جوائز؟ هل بسبب تمثيلهم؟ لا أعتقد، فقد حصلوا على هذه الجوائز على الأداء الذى استطعت أنا أن أخرجه منهم»
ليس غريبا أن تضع نادين شمس لحوارها مع خان عنوان «الاستسلام التام»، فعبر الحوار يؤكد المخرج الكبير أكثر من مرة أنه يخوض معارك ضارية مع الممثلين لإخضاعهم لرغباته. عن عمله مع سعاد حسنى يقول خان:
« كان مغامرة لذيذة وثرية أيضا. عملت معها فى فيلم واحد «موعد على العشاء» واستغرق الأمر منى أنا وبشير الديك سنة كاملة فى زيارات لها لإقناعها بالدور. سعاد ممثلة قوية، ونادرة أقول هذا رغم أننى كدت أن أصاب بقرحة فى المعدة أثناء الفيلم..»
يستطرد خان: «من يوم إلى آخر أثناء التصوير كان تعبى يزداد لكننى كنت مذهولاً بها، هى لم تر الفيلم إلا بعد أن انتهى تماماً عكس ما كان يقال عن أنها تصر على حضور المونتاج وغير ذلك. طبعا أنا ليس عندى أحد يحضر المونتاج.. واحترمت هى ذلك ولم تر الفيلم إلا مع كل الناس وكانت يومها ترتعش من الخوف».
حكايات خان عن سعاد حسنى وأحمد زكى فى الحياة والسينما لا تنتهى، ومن بين هذه الحكايات فإن أكثرها تفسيرا لطبيعة فن ومهنة التمثيل وطبيعة النجمين الكبيرين حكاية مشهد المشرحة فى فيلم «موعد على العشاء»:
«كل منهما يمثل مدرسة فى التمثيل ولكل منهما طريقة مختلفة فى التعامل. ومشهد المشرحة صور مرة واحد فقط ولم يعد تصويره وهذا نادر جدا. يومها كان معى كاميرتان والمكان كئيب جدا وسعاد كانت جالسة تأكل سندويتش وتشرب كوكاكولا لكى تدارى توترها.. وجاء أحمد.. قلت له : لديك خياران إما أن أضعك فى درج المشرحة وهنا يصبح المشهد قوياً أو أضعك على الرخامة فى الخارج وسيكون هذا شيئاً عاديا...وكنت أعرف بالطبع أنه سيختار أن يوضع فى الدرج من الداخل. وبالفعل أحضرنا له كولونيا واحتاج إلى بعض الشراب ليشعر بالقوة. أما سعاد فشرحت لها ماذا عليها أن تفعل.. كان عليها أن تنادى «شكرى» وهى تبكى ثم تلمسه.. قالت لى :لا لن ألمسه.. قلت لها: ح تلمسيه ياسعاد.. قالت: لا أشعر أنى سألمسه.. قلت لها: نصور ونرى ماذا سيحدث. وضعت كاميرا على مسافة متوسطة والكاميرا الأخرى على مسافة بعيدة.. وبدأنا.. وبالفعل لمسته سعاد، بل إنها أمسكت به وأخذوا يجذبونها... ومن قوة أدائها كان بشير الديك يقف بجانبى ويبكى».
أحمد زكى، كما يرى خان يعشق أن يستفزه المخرج، وعندما يستفز فى مناطق معينة يخرج بالأداء المطلوب.. وهو يحب أن يعارض طول الوقت، وهذه مشكلة... وأحيانا تصبح مشكلة حقيقية. يروى خان: «فى أحد مشاهد «هند وكاميليا» كان يفترض أن يقفز أحمد من النافذة ليدخل إلى الحمام.. أحمد رفض، وتحديته بأننى سأقفز، وعندما قمت بالقفزة بشكل ليس جيداً انفعل هو وقفزها... لماذا ؟ ليثبت لى أنه أفضل منى».
وعلى العكس من محمد خان الذى يرى أن المخرج هو المسئول عن كل كبيرة وصغيرة فى أداء الممثلين يعترف على بدرخان بأنه لا يقول للممثل كيف يؤدى مشهدا معينا: «نحن نتناقش.. وهو يمثل ولى أن أقول إذا كان أداؤه قريبا أو بعيداً عن تصورى».
أكثر ما يهتم به بدرخان هو تهيئة «الموود» أو المزاج العام فى موقع التصوير ليناسب الحالة التى يريد أن يكون عليها الممثلون. فى «شفيقة ومتولى» مثلا يروى كيف أنه ذهب لتصوير أغنية سعاد حسنى «بانوا على أصلكوا» فوجد أن المزاج العام فى الاستديو منشرح ومرح أكثر من اللازم، فما كان منه إلا أن افتعل بعض المشاجرات مع الممثلين والمنتج يوسف شاهين ليعكر مزاجهم، حتى ينعكس ذلك فى تعبيراتهم أثناء الأغنية!
عن سعاد حسنى يقول على بدرخان:
«هى شخص دقيق جدا الكامل بحرفة سعاد حسنى.. أنا ضد كلمة تشاع عنها وهى أن لها «أسلوباً».. هذا كلام نقاد غير موجود.. نعم لها شخصيتها.. ما أفهمه أن سعاد وهى تؤدى دورا ما... هذا الدور يأخذ صبغة سعاد.. الشخصية تأخذ من سعاد، ولو أدت الشخصية نفسها ممثلة أخرى ستأخذ طابع وروح هذه الممثلة».
فى فيلم «الحب الذى كان» أول فيلم أخرجه بدرخان مع سعاد حسنى، كما يروى «كان هناك لقطة تريد أن تؤديها بانفعال عال ويفترض أن يكون الانفعال فيها مكتوما. طبعا النوع الأول عادة ما يكون أكثر إغراء للممثل، اعتقادا منه أنه يظهر إمكانياته. فقلت لها نصوره مرتين، مرة بطريقتها ومرة أخرى بطريقتى، وحدث ذلك فعلا، فاختارت هى الثانى».
وعن أحمد زكى يقول:
لا أستطيع أن أقول عن «أحمد زكى» سوى أنه مجنون بالتمثيل..أحمد يعيش الشخصية 24 ساعة فى اليوم، من الممكن أن يتصل بى فى الفجر ليضيف تفصيلة ما.. مشهد «الفأر» فى فيلم «الراعى والنساء» هو الذى تخيله.. أيضا مشهد الضابط فى نهاية فيلم «نزوة» هو الذى تصوره.. هو يعيش الحالة تماما.. وهذا هو أسلوبه».