أحدّثكم هذه الجمعة عن ثائر أحبه، وكثيرا ما أتأمل سيرته بإعجاب ودهشة. إنه الزبيرُ بن العوام، الذى عرف طعم الثورة مبكرًا، عندما تمرد على عائلته ودخل الإسلام، وهو صبى لم يبلغ الرشد بعد، وتعرض لتعذيب شديد ليترك الدين الجديد، ولم يتراجع. وتروى كتب التاريخ أن عمه كان يعلقه فى حصير ويدخّن عليه النار، فيقول بإصرار: «والله لا أعود لكفر أبدًا»، وبعد أسابيع قليلة كان أول مسلم يشهر سيفه فى مكة، حيث سرت شائعة بمقتل الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فاستلّ الزبير سيفه، وانطلق فى شوارع مكة غاضبًا، حتى لقى الرسول فى أعلى مكة، فسأله: ماذا بك؟ قال: سمعت أنك أُخذت. فقال الرسول: وماذا كنت فاعلًا؟ فقال: السيف دونهم ودونى، قتلتهم أو قتلونى. فدعا له الرسول بالخير وغَلَبة السيف، وقال عنه بعد مهمة فدائية فى غزوة الخندق: «إِنّ لكلِ نَبِىٍّ حوارِيًّا، والزبير حوارِىَّ، وابن عمَّتِى»، فهو ابن صفية بنت عبد المطلب، عمة الرسول، والعوام بن خويلد شقيق السيدة خديجة. من الناحية البدنية أجمع معظم المؤرخين على أنه كان خفيف اللحية أسمر اللون، كثيف الشعر، طويل القامة حتى إذا ركب الدابة لامست رجلاه الأرض، ربّته أمه صفية بالشدة والحزم، وكانت تضربه بشدة وهو يتيم بعد وفاة والده، فعاتبها البعض فى ذلك، فقالت: «إنما أضربه لكى يدب.. ويجرّ الجيشَ ذا الجلب»، وذات مرة كسر يد غلام، فجاءت أمه إلى «صفية» تشكو فقالت لها إنها تربِّى نمرًا لا قطًّا. وهكذا نشأ الزبير من الناحية النفسية والبدنية، كان مقاتلًا مقدامًا، مندفعًا يتملكه الحماس، وهذه الروح الثائرة هى التى غرست فيه الولع الشديد بالقتال وحب الشهادة، حتى إن أولاده جميعا على أسماء شهداء الإسلام، وشارك الزبير فى كل غزوات الرسول، وشاهد جثة خاله حمزة بعد التمثيل به، وذكر بعض الرواة أن جسده كان ممتلئًا بالنُّدب الباقية من نصال السيوف وضربات الرماح، حتى إن بعضها كان غائرًا بشدة مثل العيون فى أنحاء جلده. ذكر الرواة الكثير من مآثر وبطولات الزبير، ففى غزوة «بدر» لم يكن فى صف المسلمين إلا فارسان فقط هما المقداد بن عمرو، والزبير الذى قاد الميمنة وهو فى السابعة عشرة من عمره، وفى غزوة «أُحد» طارد المشركين بعد انتصارهم ليوهمهم بأن المسلمين حشدوا لهم فلا يعودوا للقتال، وقام بمهام «كوماندوز» بطولية فى غزوات الخندق والأحزاب وخيبر وحنين واليرموك، ولم تكن حميته النفسية مقصورة فقط على الجانب العسكرى، فقد كانت عاطفته ساخنة، وغيرته شديدة، وقد ذكرت ذلك زوجته السيدة أسماء بنت أبى بكر الصديق عندما قالت: تزوجنى الزبير وما له فى الأرض مال ولا مملوك ولا شىء غير فرسه، وقالت: فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤنته وأسُوسُه، وأدق النَّوى للناضحة، وذات يوم كنت أنقل النوى على رأسى من الأرض التى أقطعها الرسول صلى الله عليه وسلم للزبير، وهى على ثُلثى فرسخ، فلقيت الرسول ومعه نفر من أصحابه فدعا لى، ثم قال: «أخ أخ»، ليحملنى خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال. وتحدثت أسماء عن الزبير وغيرته، فقالت «إنه كان من أغير الناس، فلما حكيت له ما حدث قال: والله لحملك النوى كان أشد علىّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلىّ أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفانى سياسة الفرس، فكأنما أعتقنى».