هدد تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام (داعش)، فى 12 يونيو الجارى، بأن «تصفية الحساب» فى العراق، لن تنتهى فى بغداد، ولكن فى النجف وكربلاء، المدينتين المقدستين لدى شيعة العراق والعالم. ويحمل هذا التهديد إشارة واضحة إلى أن التنظيم ينوى توسيع معركته لتشمل ليس فقط المناطق ذات الأغلبية السُّنية ولكن أيضا المناطق التى لا تعد فقط ذات أغلبية شيعية، ولكن التى تمتلك قدسية يمكن أن يطلق المساس بها صراعا مذهبيا وطائفيا، على طول خطوط الانقسام السُّنى/ الشيعى فى الإقليم والعالم. يؤشر ذلك إلى أن معركة «داعش» ليست فقط مجرد تمرد سنى على عملية إقصاء سياسية/ مذهبية، عانى منها سنة العراق فى ظل حكومة رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى، بل إن تلك المعركة تنزع بامتياز إلى محاولة إثارة الصراع المذهبى والطائفى عبر الشرق الأوسط بأسْره. وإثر ذلك، تداعت المواقف الداخلية فى العراق والإقليمية حوله تنبئ بأن المنطقة بأسرها على أهبة الاستعداد لتحقيق هذه الغاية والدفع فى سبيلها. دعت المرجعية الشيعية فى العراق أتباعها إلى الاحتشاد لخوض معركة حاسمة ضد «داعش»، بينما أعلن المالكى، التى تعد سياساته الإقصائية من أهم الأسباب وراء تصاعد أزمة التكامل القومى فى العراق، أن الآلاف من المتطوعين الشيعة يستعدون لدحر «داعش»، مهددا بأن يرتد ما وصفه ب«الإرهاب» إلى السعودية وقطر اللتين اتهمهما، أول من أمس (الأربعاء)، بدعم «داعش» وشن حرب على بلاده. من جانبها، أعلنت إيران أن قواتها العسكرية على أهبة الاستعداد للتدخل فى العراق، بينما حذر وزير الخارجية السعودى سعود الفيصل من حرب أهلية تتصاعد نذرها فى العراق، بعد أن كانت المملكة قد حمّلت المالكى مسؤولية الأزمة المذهبية فى العراق. من جانبهم، استغل الأكراد تصاعد الصراع لتعزيز مكاسبهم الإقليمية بالسيطرة على مدينة كركوك الاستراتيجية، بينما حث رئيس وزراء إقليم كردستان العراق نجيرفان بارزانى على منح السُّنة حكما ذاتيا، حلا للأزمة. تكشف تلك التفاعلات جميعا أن الأطراف المنخرطة مباشرة فى الأزمة جميعها تستعد لوضع جديد لا يعود -بأى حال- بالعراق إلى ما كان عليه عشية استيلاء «داعش» على الموصل وتكريت، كما يبدو أن الجميع يسعى كذلك لتعزيز مكاسبه السياسية والإقليمية، بغض النظر عن مدى إضرار ذلك بفرص حل سياسى توافقى حقيقى فى العراق. لكن السؤال الرئيسى الذى يبرز فى هذا السياق: هل بمقدور «داعش» مواصلة الانتصارات السريعة التى حققها لإحداث مزيد من التغيير على الأرض وفى معطيات السياسة العراقية والإقليمية؟ لا يبدو للوهلة الأولى أن ذلك ممكن. يلاحظ فى هذا الإطار أن العوامل التى ساعدت «داعش» على تحقيق انتصاراتها الأولى بدأت تتراجع بدرجة كبيرة، إذ بدأ الشيعة يحتشدون لخوض حرب «مقدسة» ستكون شديدة القسوة وعالية التكلفة، يعززهم فيها ما يتمتعون به من ثقل سكانى فى العراق، ودعم إيرانى يبدو أنه سيكون غير محدود. وفى المقابل، فإن فرزًا قد تم بالفعل داخل الجيش العراقى، بحيث لا يمكن توقع انشقاقات داخل القوات التى تصطف إلى جوار حكومة المالكى، أو تخاذل آخر من جانبها، على غرار ما بدا فى الموصل وتكريت. كما أن «داعش» إذا أرادت توسعة نطاق المعركة سيتعين عليها الانتقال إلى مناطق ذات أغلبية شيعية واضحة، وخوض حرب شوارع لا يبدو أن التنظيم يمتلك القدرات التسليحية أو البشرية لكى يكون هو الطرف المهاجم الذى يتحمل العبء الأكبر فى ظلها. إقليميا يبدو أن المالكى ومن خلفه إيران التى تخوض معارك الدفاع عن نفوذها فى العالم العربى إلى أقصى مدى بما فى ذلك التدخل العسكرى الصريح، يخططان حاليا لاستغلال الأزمة من أجل محاولة هزيمة من يعدّونهم «أعداء» سياسيين، لا شركاء فى الوطن العراقى، وبالتالى فرض سيطرة شيعية أكثر قسوة على الدولة العراقية، أو ما يبقى منها تحت سيطرتهم. وفى المقابل، فإن أى دعم خليجى لتنظيمات مثل «داعش» لن يكون من دون حدود، بالنظر إلى ما يمثله تصاعد نفوذ مثل هذه التنظيمات السُّنية المتطرفة وقوتها من خطر يهدد بقية الدول العربية. بعبارة أخرى، تبدو دول الخليج العربية بين سندان التغلغل الإيرانى، ومطرقة خطر تصاعد تنظيمات السلفية الجهادية التكفيرية وتغلغل أفكارها وعناصرها عبر الإقليم. يبدو من تلك المعطيات أن فرص «داعش» فى تحقيق انتصارات إضافية تراجعت بدرجة كبيرة، بينما يتوقع أن يواجه التنظيم هجوما مضادا قاسيا. ويعد مقدار ما سيتلقاه التنظيم من دعم إقليمى «مستتر» هو العامل الحاسم فى تحديد مدى قدرته على الصمود، وإدامة تحديه لمحاولة فرض الهيمنة الشيعية/ الإيرانية على مقدرات العراق. يواجه العراق فى هذه اللحظة انتهازية سياسية مقيتة يسعى كل أطراف الصراع فى ظلها للانتصار فى العراق، لا الانتصار له. وسيبقى الحل الوحيد رحيل المالكى وعزل «داعش» وتشكيل حكم جديد فى العراق يؤسس لتكامل قومى قوامه ديمقراطية المواطنة لا المحاصصة الطائفية، وعدالة توزيع الموارد وعوائدها لا احتكارها، وتحصين العراقيين من التدخل الخارجى... حل لا يبدو أن العرب أمكنهم التوصل إليه فى أى من أزمات تكاملهم القومى السابقة أو الحالية.