الكل في العراق وخارجه يتحدثون عن الديمقراطية، ولكن لا أحد يتحدث عن الأوضاع على الأرض في هذا البلد العربي الشقيق الذي كان يجهز كي يكون نموذجا للديمقراطيات الجديدة في الشرق الأوسط الكبير. من بين مؤشرات الوضع على الأرض أن هناك نحو 7818 مدنيا قتلوا العام الماضي في أعمال عنف، كما قتل نحو ألف شخص في فبراير الماضي فقط من هذا العام، وتشير تقارير إلى أن نحو ألف فرد من القوات المسلحة العراقية قتلوا في مواجهة التمرد السنّي في الأنبار خلال الأشهر الأولى من العام الجاري. هذا المستوى الخطر من العنف لم يحدث في ساحات معارك بل داخل المدن والأسواق والأماكن المزدحمة بالسكان الأبرياء، والمشهد الدموي الراهن في العراق هو نتيجة تفاعل عناصر ثلاثة محددة هى الطائفية والإرهاب والتدخل الإيراني في الشأن العراقي الداخلي. الواقع العراقي الراهن وصفته مجلة "الإيكونوميست" في تقرير لها نشر مؤخرا بأنه مع ارتفاع مستوى العنف الطائفي في العراق منذ عامي 2007 و2008 فإن العراقيين لا يفكرون سوى بالبقاء أحياء أكثر من التفكير بالديمقراطية. المشهد العراقي تتداخل فيه الطائفية ممثلة في توجهات حكومة نوري المالكي الذي يتبنى نهجا طائفيا في إدارة شئون البلاد، وعلى النقيض منه يطل برأسه تطرف آخر ممثل في ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). والغريب أن العراق في ظل هكذا أوضاع، ورغم كونه المنتج الثامن للنفط على المستوى العالمي إلا أنه لا يقدر على تمويل ميزانيته، فقد واجهت ميزانية العام الماضي عجزا ماديا حسب تقرير صندوق النقد الدولي، ما يعني أن الفساد يفوق الثراء المادي المفترض لدولة مثل العراق. ورغم أنه ليس من الصعب أن يحصل خلاف عراقي حول أي شخصية سياسية في ظل الفسيفساء العرقي والديني السائد في البلاد، إلا أن رئيس الوزراء المالكي يظل شخصية استثنائية في هذا الإطار، فهو من أكثر الشخصيات الخلافية في العراق بحسب ما يتفق معظم المحللين، حيث يرى فيه جانب كبير من العراقيين ذراعا لإيران - حيث عاش فترة كبيرة من عمره - بينما يعتبره آخرون طائفيا مدافعا عن مصالح الشيعة في العراق لا رجل دولة يدافع عن مصالح الشعب العراقي بأكمله. صحيح أن الشرق الأوسط في مجمله يعاني مشهدا عبثيا من الصراع السني - الشيعي في مناطق شتى، ولكن هذا الصراع يتجلى بوضوح في العراق، حيث إن أحد جوانب الصراع هى طائفية بامتياز، حيث تعاني البلاد ولاءات مذهبية عابرة للحدود وتجعل من الصعب الحديث عن الوطن والولاء والانتماء والوحدة الوطنية. الظاهرة الدينية في العراق هى أحد مكونات الأزمة الحاصلة في البلاد، وترتبط ارتباطا شديدا بالواقع السياسي المعقد، حيث تصاعد دور المؤسسات الدينية الشيعية والسنية على حد سواء عقب الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003، وأسهم في ذلك انهيار الدولة وتفككها وتحول المؤسسات الدينية إلى طرف فاعل في اللعبة السياسية وتشكلت لها أحزاب وأصبحت العمائم أحد رموز الشارع السياسي العراقي، ولأن المجتمع العراقي يوصف عادة بأنه مجتمع غير متجانس مذهبيا، فقد كان من الطبيعي أن تكون الأحزاب الدينية التي تم تشكيلها أحزابا طائفية بالضرورة. أما العنصر الثاني في مكونات الأزمة العراقي فهو الإرهاب، الذي بات يلعب الدور الأبرز في غياب حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي بالبلاد، فهناك تنظيمات عدة إرهابية أبرزها "داعش" وهذه التنظيمات تستغل أجواء الفوضى وتعمل على تكريسها من أجل بناء ما تزعم هذه التنظيمات أنه "دولة إسلامية" في العراق. أما إيران فقد بات لها اليد الطولى في التحرك داخل العراق ومحاولة "هندسة" الدولة العراقية بما يخدم المصالح الاستراتيجية الإيرانية، ليس فقط بالنسبة للوضع السياسي ولكن أيضا على مستوى قوات الأمن والجيش العراقي الذي تبذل إيران كل طاقاتها من أجل ضمان ألا يتحول هذا الجيش إلى مصدر تهديد من أي نوع لأمنها القومي، وهى تتفق في ذلك مع أهداف أطراف إقليمية ودولية أخرى مثل إسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية. وفي سبيل تحقيق أهدافها تلك ترعى إيران العديد من التنظيمات المتطرفة في العراق وتزودها بالسلاح والمال، ومنها جماعة "عصائب الحق" وكتائب حزب الله، الذي خرج مؤخرا عن سريته وبدأ يظهر في العلن على الساحة العراقية، بل بات يشارك في مظاهرات احتجاجية وأنشطة سياسية أخرى، مدافعا بشكل صريح ومباشر عن إيران، حيث لوحظ أن هذه الكتائب دعت مؤخرا إلى مسيرة في وسط العاصمة العراقية تنديدا بصحيفة "الصباح الجديد" العراقية، التي كانت قد نشرت رسما كاريكاتيريًّا للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، كما تشهد محافظة الأنبار غربي العراق على عمق التغلغل الإيراني في الصراعات الدائرة في العراق. الخلاصة في المشهد الراهن أن العراق أصبح رهين ثلاثي الطائفية الإرهاب وإيران، وبات واضحا أنه لا حلول ولا مخارج في الأفق القريب من هذه الأزمة التي يعانيها، فالعوامل التي تؤجج الوضع لا تزال قائمة بل وتتكرس وتتعمق في البلاد، ومن الصعب التهوين من خطر أي من أضلاع هذا المثلث المدمر، الذي أصاب أرض الرافدين في مقتل. إذا كان النظام الإقليمي العربي يمر بأضعف حالاته ويعاني تمزقات وصراعات منذ اندلاع موجة الاحتجاجات التي قلبت الأوضاع في المنطقة رأسا على عقب في عام 2011، فأين المجتمع الدولي مما يحدث من تدخلات إيرانية في الشأن العراق؟ وكيف تسمح الأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي على استباحة دولة عضو بالمنظمة الدولية من جانب دولة أخرى عضو بالمنظمة بهذا الشكل؟. هل يظل العراق أسيرا للفوضى وتنظيمات الإرهاب والخطاب الطائفي المشحون؟ وهل مانشهده في العراق هو النموذج الذي كان يسعى الغرب بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى تطبيقه في العراق ليكون "ملهما" لدول الشرق الأوسط الكبير؟ وهل تأكد الغرب من أن الفوضى لا تنتج نظاما ولا تسهم في بناء الدول بل ليست سوى نظرية عبثية يدفع ثمنها العراقيون من دمائهم وأمنهم واستقرارهم ومستقبل أجيالهم المقبلة. الشواهد تؤكد انه لا جديد سيأتي عبر نتائج الانتخابات العراقية التي جرت في الثلاثين من ابريل الماضي، فالمشهد قد لا يتغير تقريبا، أو على الأقل لن تتغير معالمه الرئيسية ويبقى السؤال: من ينقذ العراق والعراقيين؟