لم يكن وحده الكاتب والصحفى محمد جلال كشك الوحيد الذى تحول من موقع فكرى وسياسى إلى موقع آخر، فهناك الكثيرون الذين تحولوا من تطرف إلى تطرف نقيض، بعضهم كتب تجربته، والبعض الآخر ترك للزمن والتاريخ أن يضع لمساته الحقيقية فى معضلة التحولات الدرامية، ومن أشهر هؤلاء محمد عبد الله عنان، الذى كان أحد مؤسسى الحزب الشيوعى المصرى فى عام 1924، ثم جاءت ضربة قوية للحزب من حكومة سعد زغلول، وقبض على قياداته، وتخلى كثيرون عن الحزب، وكان على رأس هؤلاء عبد الله عنان، الذى أصبح فى ما بعد مؤرخا مهما ليكتب موسوعته الفريدة عن تاريخ الدولة الأندلسية، وكتب عددا كبيرا من الأبحاث فى التاريخ العربى، وأنكر فى مذكراته التى نشرها فى دار الهلال تحت عنوان «ثلثا قرن من الزمان» انتسابه إلى الحزب الشيوعى، وكذلك محمود حسنى العرابى القيادى بالحزب، الذى خرج من السجن ليسافر إلى ألمانيا، ويعتنق بعضا من الأفكار النازية، وفى العصر الحديث عندنا الدكتور محمد عمارة، الذى كان عضوا قياديا، مسؤول لجنة منطقة، فى الحزب الشيوعى المصرى الموحد فى أواخر الخمسينيات، وكان يدعى الرفيق سلّام، وكذلك الدكتور مصطفى محمود والكاتب الصحفى عادل حسين، وكذلك ابن شقيقه القيادى بحزب العمل مجدى أحمد حسين، الذى كان منتميا إلى حزب العمال الشيوعى المصرى، ثم أصبح من أشد المتطرفين فى الحركة الإسلامية المعاصرة. هذه عينة يسيرة من المتحولين المصريين، ويقف فى وسط هذه التحولات الكاتب الصحفى محمد جلال كشك، الذى اشتهر فى العقود الأخيرة بكتبه: (ودخلت الخيل الأزهر، وثورة يوليو الأمريكية، كلمتى للمغفلين، الناصريون قادمون، والسعوديون والحل الإسلامى، والجنازة حارة.. إلخ)، وهناك كثير من الكتب التى لم تأخذ شهرتها فى الحياة السياسية والثقافية والفكرية، والذى يتأمل هذه الكتب سيكتشف أن جلال كشك مرّ بتحولات عنيفة، لكن مؤرخى سيرته، الذين كتبوا هذه السيرة، ووضعوها على المواقع الإلكترونية، أغفلوا جوانب كثيرة حول هذه التناقضات، بل أسقطوها عمدا، لكنهم أبرزوا أنه كان شيوعيا، وانتمى إلى حزب الراية، واختلف مع هذا الحزب فانشق عنه وتركه، وينقلون عنه جملة تحمل هذا التناقض بشكل واضح، إذ إنه قال: «إن الماركسية فلسفة عظيمة.. إلا أن الماركسيين انحرفوا، وهذا فى الواقع بسبب فساد الماركسية نفسها)، فكيف تكون الماركسية فلسفة عظيمة، وفى الوقت نفسه فاسدة، وهذه الحكايات والنوادر التى تحملها مواقع الإنترنت، تروج أساطير ليس لها أى أساس من الصحة، مثل واقعة رحيله التى وقعت بعد مناظرة بينه وبين نصر حامد أبو زيد، وهذا افتراء جسيم، وليس له علاقة بالواقع إطلاقا. والذى يتأمل كتابات كشك منذ بداياته، سيدرك أنه شنّ هجوما ضاريا على التيارات الإسلامية آنذاك، وعلى رأس هذه التيارات جماعة الإخوان المسلمين، وذلك فى كتابه الأول: «مصريون.. لا طوائف»، عام 1951، وهاجم قيادات الجماعة بالاسم، ففى سياق مديحه برنامج الحزب الوطنى القديم، أعلى من شأن البعد الوطنى، واستبعد العنصر الدينى من المعاداة للاستعمار الإنجليزى، ويعقب كشك قائلا: «ولماذا كان هذا الوضوح وهذه الجرأة، لأنه يعترف أن عداءه للأجانب لا يقوم على أساس دينى، بل لاستبدادهم بالشعب واستغلالهم موارده، لا كما تأتى جماعة آخر الزمان، جماعة الإخوان»، فيكتب صالح عشماوى «إن الإنجليز لا يستغلون عسكريا ولا اقتصاديا ولا استراتيجيا بل دينيا»،وفى سياق آخر يقول: «ويستخدم الإخوان، صلح الحديبية، فى وصف كل معاهدة أو اتفاق مع الاستعمار والرجعية، يتضمن تنازلا عن حقوق الشعب»، وفى سياق ثالث يقول: «ويصف زعيم الإخوان بالجامعة صدقى الطاغية بآية قرآنية كريمة (واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد)...»، وهكذا يسترسل كشك فى إيضاح موقفه من التيارات الإسلامية المتطرفة، ويخص جماعة الإخوان بالذكر، لكنه بعد انقلابه الأيديولوجى، يتنكر لكل هذا الكلام ويدافع بضراوة عن هذه التيارات، وينسى كتبه الأولى، خصوصا كتابه «الجبهة الشعبية»، الذى نشره فى أوائل عام 1952، وأهداه إلى السياسى الحر محمد كامل البندارى، وكان البندارى الرأسمالى، الذى يدافع عن الاشتراكية، وكانوا يطلقون عليه «الرأسمالى الأحمر»، وبعد قيام ثورة يوليو، يصبح جلال كشك أحد الداعين والداعمين للسلطة الناصرية بقوة، فكتب سلسلة مقالات عن «اشتراكيتنا»، ويقصد الاشتراكية التى تحدث عنها الميثاق، وكتب مسرحية عام 1961 تحت عنوان «شرف المهنة»، وتحدث فيها عن الفرق بين الصحافة المغدورة قبل ثورة يوليو، والصحافة الحرة بعد الثورة، وكتب يحيى حقى دراسة عن هذه المسرحية، والحق يقال إن هذه المسرحية مكتوبة بفنية بديعة، وفى مجلة «روزاليوسف» كتب سلسلة مقالات تحت عنوان «خلافنا مع الشيوعيين» بدأ نشرها فى 18 يونيو عام 1962، وهذه ال«نا» يقصد بها سلطة يوليو، ويعتبر «أن اشتراكيتنا تحّدً فلسفى وسياسى للماركسية»، ثم أصدر كتابه «الغزو الفكرى» تحت شعار «مفاهيم إسلامية»، وهاجم فيه الكتاب والأدباء العرب والمثقفين اليساريين المصريين والعرب، واتضحت تناقضاته بشكل حاد، ففى سياق هجومه على الدكتور لويس عوض كتب فصلا عن الجنرال الخائن، ويقصد به المعلم يعقوب الذى كتب عنه لويس عوض فى كتاباته التاريخية، فيقول كشك: «وهذا اليعقوب هو الذى يجعله الدكتور لويس عوض أول من نادى باستقلال مصر.. والجنرال يعقوب هو الذى كوّن فيلقا لضرب الشعب المصرى ومعاونة الاحتلال الفرنسى ثم خرج هاربا مع جيش الاحتلال ومات على ظهر السفينة، فوضعوا جثته فى برميل من الروم لينفذوا آخر وصاياه الشاذة ويدفنوه مع ديسيه!»، ولو عدنا إلى كتاب كشك «مصريون.. لا طوائف» سنقرأ لجلال كشك الكلام التالى: «ونحن نجد أول صدى هذه التيارات فى مشروع المعلم يعقوب لتحرير مصر من الحكم العثمانى، لكن دعوة المعلم يعقوب لم تنجح فلم تكن مصر مهيأة بعد لهذه الدعوة، ولم تكن بالبلاد طبقة أو قوة اجتماعية قادرة على احتضان هذه الدعوة، أو من مصلحتها ذلك.. أخفق المعلم يعقوب لأنه كان يمثل فى مطلع القرن التاسع عشر أول محاولة فى طريق لم تتبين معالمه إلا فى القرن العشرين». وهكذا تتبين التناقضات الحادة لمحمد جلال كشك بين مرحلة وأخرى حسب المتطلبات السياسية التى كانت تفرض نفسها على السياقات السياسية العربية.