شهادة المفكر اليساري الأستاذ محمود أمين العالم التي سمعها، وسجلها، ونشرها، الزميل د. مصطفي عبدالغني، ضمن شهادات ل 16 من كبار مفكرينا ومثقفينا، في كتابه الذي أصدره »مركزالأهرام« في شهر يونيو الماضي يمكن وصفها بأنها: »ترصد بدقة ملامح المرحلة التي تحوّل فيها المناضلون اليساريون من معتقلين في سجون مغلقة علي الدوام، إلي صناع قرار بشكل أو آخر«. في سطور مختصرة، وواضحة، عرّف د. مصطفي عبدالغني مؤلف كتاب:»الشهادات الأخيرة. المثقفون وثورة يوليو« شخصية صاحب الشهادة قائلاً: [إن محمود أمين العالم هو أحد أقطاب اليسار المصري، وتعرّض مثل غيره من المثقفين لصدامات مع ثورة يوليو1952. ذاق »العالم« السجن في أروقة أبو زعبل، ثم الفيوم، حتي وصل إلي معتقل الواحات. أرخ »العالم« لفترة الحكم الناصري، بحلوها ومرّها، كما خاض مفاوضات شاقة مع قيادات الثورة للإفراج عن المعتقلين الشيوعيين في الستينيات من القرن الماضي وهي المفاوضات التي توّجت بحل الحزب الشيوعي، وانخراط أعضاء التنظيمات الماركسية في التنظيم الطليعي. ولعب »العالم« دوراً بارزاً علي الساحة السياسية المصرية بعد الإفراج عنه. فمن مؤسسة المسرح، إلي مؤسسة أخباراليوم]. في بداية الخمسينيات تم فصل 43جامعياً ضمن مجموعتين فكريتين في ذلك الوقت. الأولي: تضم الماركسيين. والثانية: تضم الإخوان المسلمين. محمود أمين العالم كان ضمن المجموعة الأولي، ومعه العديد من زملائه، مثل الأساتذة: لويس عوض، وعبدالمنعم الشرقاوي، وعبدالعظيم أنيس، وعبدالرازق حسنين، وغيرهم.. ممن اعتبروا آنذاك من »معارضي النظام«. ويتحدث الأستاذ محمود العالم عن تلك الفترة فيقول في شهادته: [كان لي نشاط معروف في الجامعة، وهو نشاط يؤيد الثورة في بعض الاتجاهات المعادية للاستعمار، لكننا وقفنا ضد ميول الثورة للأمريكان. كنا نستخدم أسلوباً نسميه:»التأييد النقدي«. كأن نؤيد طرد الملك مثلاً.. لكن لنا رأياً آخر في باقي القضايا. كان لي الموقف الخاص بي. فقد كنت أكتب مقالات في جريدة »المصري« ظاهرها النقد الأدبي وباطنها معارضة النظام]. ورداً علي سؤال متي تحدد الموقف المتشدد للأستاذ محمود أمين العالم من ثورة يوليو؟ أجاب »العالم«: [خلال الفترة الحرجة التي تم خلالها قتل العاملين المناضلين اليساريين: »خميس« و»البقري«. قبلها كان تأييدي للثورة واضحاً، وعلنياً. ومع تزاحم الأحداث مثل: »التوجه الأمريكاني«، و»ضرب الأحزاب وحلها« بدأ التحول من التأييد إلي الاعتراض. ثم من الاعتراض إلي التأييد .. عندما استبشرنا بإيجابيات حققها النظام مثل التوقيع علي معاهدة عام1954 لإنهاء الاحتلال البريطاني، والمشاركة الرئيسية في تأسيس كتلة دول »عدم الانحياز« في مؤتمر باندونج]. ويذكرنا الأستاذ العالم بأنه سبق أن انتقد موقفه الذاتي المؤيد للثورة، وذلك في مقدمة كتاب له تحت عنوان:»الوعي والوعي الذاتي«، قائلاً: [إنني قد أبدو مخطئاً في تأييدي للثورة، لكنني حتي الآن أراها لواء من ألوية الكفاح ضد الاستعمار، وفي الوقت نفسه كنت أؤيدها تأييداً مطلقاً دون أن نهتم بنقد تعاملها مع الجماهير. كنا نؤيد الثورة لمواقفها ضد الاستعمار والصهيونية، وفي تقديري الآن: لو إننا اهتممنا بمقولة الصراع الطبقي، والمطالبة الجماهيرية لكان يمكن أن نحقق نتائج أفضل]. معارضة الأستاذ محمود أمين العالم لبعض مواقف الثورة، لم تكن خافية كما أتصوّر عن سمع وبصر قادتها. ورغم ذلك لم يتردد هؤلاء القادة في اختيار »العالم« لتولي وظائف ومناصب مهمة في الدولة. وهذا التناقض توقف أمامه د. مصطفي عبدالغني، وحوّله إلي سؤال طرحه علي »العالم«، ويقول: »ما السبب الذي دعا السلطة لاختيارك عضواً في تنظيمها الطليعي؟« وأجاب الأستاذ محمود أمين العالم: [إن دعوتي للتنظيم الطليعي لها قصة. لقد كنا في المعتقل، وحدث استقطاب هناك.. خاصة بعد إجراءات 1961الاشتراكية. كان هناك تيار أو مجموعة تري أن تلك الإجراءات هي قرار عام لرأس المال لتتحول الحكومة إلي »رأسمالية الدولة الاحتكارية«. وتطوّر هذا التفكير رويداً رويداً حتي توصلت هذه المجموعة إلي درجة الجزم بأن »عبدالناصر ومجموعته أصبحوا يمثلون الشريك الأصغر للاستعمار«! وفي المقابل.. وقفت مجموعة أخري تري أن هذه الإجراءات تأميمات، ومصادرة ثروات، وتصفية الإقطاع أكبر من أي قراءات. وهذا معناه أن أي إنسان يرفع رأسه بمثل هذا يجب تأييده. وبعد جلسات ومناقشات انتهينا إلي أن هناك في السلطة تنشأ مجموعة اشتراكية غير علمية »طوباوية« ولكنها بالخبرة النضالية العملية تقترب شيئاً فشيئاً من الفكر الاشتراكي العلمي. وعلي هذا الأساس.. يجب تأييدها]. ويضيف الأستاذ»العالم« قائلاً إنه علي المستوي الشخصي وبعيداً عن جلسات المناقشات إنتهي إلي وجوب انضمامهم إلي هذا التنظيم ، دون التخلي في الوقت نفسه عن قناعاتهم الماركسية، ودون الإعلان بشكل واضح: »هل هم ماركسيون أم يمينيون؟«. .. وللحديث بقية. إبراهيم سعده [email protected]