«جولييت بينوش» امرأة تترك أسرتها ومنزلها الجميل لتصور النزاعات المسلحة والحروب لا يستوى أن تسمع أو تقرأ عن انتهاك وأن ترى بعينيك أو بعين كاميرا تصادف وجودها فى موقع الحدث، الصورة بألف مقال ومليون حكاية متداولة، لو لم تُسجل حادثة التحرش الأخيرة لما التفت إليها الرأى العام ولما اهتمت بها الدولة، ومن بين عدة حالات تحرش أخيرة لم تحظ بالاهتمام إلا الحالة المصورة، وتدرك كل الديمقراطيات قيمة الكاميرا والصورة فى تصويب الأخطاء والحد من الانتهاكات، ذات يوم شعرت قيادة الجيش الأمريكى «البنتاجون» بحرج شديد، حينما نُشرت صور انتهاكات سجن أبو غريب العراقى، وسارع بمحاكمة جنوده وضباطه المتجاوزين، ولم يطارد من نشر الصور. يدفع كثيرون حياتهم ثمنا لالتقاط صورة تكشف وتفضح انتهاك سلطة أو مجرم، استشهد الصحفى «الحسينى أبو ضيف»، وفى يده كاميرا توثق انتهاكات الإخوان، ونقلت كاميرات الصحافة والإعلام على الهواء استشهاد اللواء «نبيل فراج» أثناء عملية اقتحام كرداسة، الكاميرا سواء فى يد مواطن عادى أو مصور محترف تجعله هدفا للمجرم، الذى سجل المصور جريمته ووثقها، مهديا إياها إلى القانون، ومن يهمه الأمر، ويتعرض فيلم الممثلة الفرنسية «جولييت بينوش» الأخير للتضحية التى تقوم بها مصورة محترفة تلتقط الصور فى مناطق الحروب والنزاعات المسلحة، التضحية التى تصل إلى حد الوصول إلى نقطة حاسمة عليها الاختيار بين عملها وعائلتها. الفيلم بعنوان A Thousand Times Good Night (عمت مساءً، ألف مرة)، ويبدأ بأهم وأكثر مشاهد الفيلم تأثيرا وقوة درامية: لا يوجد حوار تقريبا، المكان فى كابول بأفغانستان، حيث تنضم المصورة ريبيكا (بينوش) لمجموعة من النسوة الأفغانيات اللاتى تقمن بتهيئة امرأة لارتداء حزام ناسف، الأجواء جنائزية يلفها الصمت فى مكان منعزل بوسط الصحراء يتهيأ لطقوس الموت، تبدأ الوقائع بنوم المرأة الانتحارية فى حفرة تشبه القبر لتتهيأ نفسيا للموت، ثم تذهب بصحبة النسوة لتغتسل وسط دعاء ونحيب من حولها من أهل ومعارف. المصورة تراقب الموقف بعدسة الكاميرا باحترافية رغم ما تشى به عينيها من صدمة وغضب وألم وإشفاق وارتباك أمام مشهد جلل لإنسانة تتهيأ للموت بكامل إرادتها، الكاميرا ترصد تعبيرات عيون الممثلين بلقطات قريبة ثم تعود بلقطات متوسطة تستعرض المشهد بتفاصيله، التى تشبه طقوسا دموية مرعبة للتضحية بقربان بشرى، المرأة الانتحارية تنظر فى الفراغ، وتبدو كأنها تعيش فى عالم آخر، ومن حولها بعض النساء يمارسن طقوس الغُسل برتابة ونظرات باردة، وقريبات المرأة يذرفون الدموع فى صمت، ويكتمون صرخات ملتاعة. للصورة الصحفية قيمة كبيرة فى الغرب، ولا يوجد سقف تقريبا لنشر الصور التى تفضح أى انتهاكات ما دامت لم تخالف المواثيق الصحفية، التى تحفظ خصوصية الفرد، ويظهر الفيلم تعنت قيادة الجيش الأمريكى «البنتاجون» فى التصريح بنشر صحيفة أمريكية للصور، التى التقطتها ريبيكا لطقوس ما قبل العملية الانتحارية لأنها -من وجهة نظرهم- ربما تصنع تعاطفا ما مع الانتحارية. يرصد الفيلم هوس ريبيكا الشديد بعملها، لقد تعرضت للإصابة من أثر تفجير انتحارى لأنها لم تبتعد بمسافة كافية بعد انتهائها من تصوير الانتحارية، التى تم كشفها فى إحدى الأسواق، وهى متوجهة لهدفها فقررت تفجير نفسها، ورغم الألم والإصابة تقف ريبيكا على قدميها تلتقط صور الفوضى بعد التفجير ثم تسقط مرة أخرى، وتذهب فى غيبوبة، ولا تعانى شخصية ريبيكا فقط من مخاطر عملها ومن ضغوط البنتاجون بل يركز أغلب الفيلم على الضغوط العائلية، التى تتعرض لها من زوجها وابنتيها للتخلى عن مهنتها الخطرة والاهتمام أكثر بعائلتها. لقد عانت العائلة أياما من اللوعة والألم والأم فى غيبوبة بين الموت والحياة، كان على الزوج الاهتمام بزوجته المصابة وتحمل اضطراب مشاعر ابنتيه الصغيرتين، لم تعد أعصاب الجميع تحتمل تكرار الموقف مع كل مهمة تذهب إليها الأم، تبرز كاميرا الفيلم التناقض بين جحيم كابول أو معكسر لاجئين فى كينيا والمكان الساحر الذى تقيم فيه الأسرة فى أيرلندا، مكان ينعم بالهدوء والسلام، ويطل على البحر، أن المصورة التى تذهب إلى أقصى الأرض فى مهمة مقدسة لكشف انتهاكات معرضة نفسها للخطر تستطيع ترك كل شىء والتنعم بترف الحياة الهادئة وسط دفء أسرة محبة. المرأة هى بطلة السيناريو الذى يصنع ميلودراما على تناقضات شخصية المصورة الانتحارية من أجل صورة كاشفة لواقع، والمرأة الانتحارية من أجل قضية تؤمن بها حتى لو كانت خطأ، كل منهما مخلص لقضية مؤمن بها، ويضحى بحياته بصورة ما، وحتى الابنة المراهقة التى تتطور علاقتها بأمها من رفض عملها تنتهى إلى الإيمان بقضيتها النبيلة، الابنة تتجاوز حتى إدراك أبيها لطبيعة أمها، هو يراها مستهترة ومتهورة والابنة تراها مخلصة لهدف أسمى حتى لو كان الثمن حياتها. الفيلم من إنتاج أيرلندى نرويجى، وفاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى فى مهرجان مونتريال فى دورته الأخيرة، وهو آخر أعمال المخرج النرويجى «إريك بوبيه»، الذى عمل كمصور صحفى لصالح رويترز وصحف نرويجية محلية قبل احترافه التصوير والإخراج السينمائى، وتبدو خبرته سواء كمصور صحفى أو سينمائى من أهم عناصر الفيلم، الذى ضم عددا من المشاهد المكثفة بصريا ودراميا تضافرت مع أداء تعبيرى بسيط ومؤثر لجولييت بينوش.