ولأنْ لا يقول قائل إن الأستاذ صبحى صالح المحامى (صاحب المكانة البارزة فى المنظومة القيادية لجماعة الإخوان) لا تصلح أقواله الطريفة وتفوهاته اللطيفة أن تكون تعبيرا دقيقا عن توجهات الجماعة وحقيقة اهتماماتها، ورغم اقتناع العبد لله تماما بأن صدق هذا الرجل وتحلّيه بفضيلة الصراحة يجعلانه التعبير الأنقى عن «إخوانه» وعاكسا جيدا للثقافة السائدة فى أوساطهم، كما أنه ناقل ممتاز لأولوياتهم والأهداف والأغراض التى يظنون أن بإمكانهم استخدام قوة الحكم وسلطة الدولة لتنفيذها. رغم هذا كله فإننى أشرت أمس إلى «نماذج» عديدة، وليس نموذجا واحدا من التهاويم «الفضائية» الإخوانية التى لا بد أن يسأل أى عاقل عن علاقتها بأرض واقع مُر، يكابده أهل هذا البلد، وقد بدأت بحالة الأستاذ صبحى من باب التسلية والتسرية على القراء الأعزاء فحسب، وسأكمل اليوم بنموذجين اثنين آخرين، لا يستطيع أحد أن يجادل فى جديتهما، لكنهما يدلان على مدى إبهام وتشوش الرؤية السياسية الإخوانية وحجم غربتها ومقدار بعدها عن قضايا وهموم الأغلبية الساحقة من الشعب الذى تتأهب الجماعة لحكمه (مناصفة مع العسكر غالبا). النموذج الأول هو ما سمعناه مؤخرا عما سموه «مشروع النهضة» الذى لم يتسرب من ملامحه شىء سوى أخبار متناثرة ومقتضبة، خلاصة ما جاء فيها أن الإخوان كلفوا المهندس خيرت الشاطر، نائب مرشدهم العام، بإعداده، وبدوره فإن فضيلة المهندس المذكور لم يضيع وقتا وإنما فورا قام بزيارة دولة تركيا لهذا الغرض، كما أن فضيلته قرر بعد الزيارة الاستعانة بخبراء أتراك، أيضا، ليقدموا له المساعدة والمشورة فى وضع المشروع وتخطيطه وهندسته. وكانت صحيفة «الحرية والعدالة» الناطقة باسم الحزب المسمى بالاسم نفسه والذى هو أصلا مجرد «ذراع» للجماعة، نشرت من أسابيع قليلة خبرا تحدث عنوانه عن «حملة» إخوانية لترويج مصر سياحيا فى تركيا (برضه) غير أن كل من قرأ متن الخبر فوجئ بأن الأمر كله لم يزد على لقاء بين السفير التركى فى القاهرة وعدد من قيادات الجماعة، عرض فيه هؤلاء على الرجل فكرة أن يبث التليفزيون التركى تلك الحملة الإعلانية الترويجية السياحية فرد السفير بما معناه: مافيش مانع.. أهلا وسهلا! إذن مشروع النهضة المزعوم هذا «تركى» فى كل شىء كما تلاحظ حضرتك، أما حضرتى فلست أملك اعتراضا ولا أرى أى مانع إطلاقا، بل لعلى أثمّن التوجه نحو استيراد «النهضة» من تركيا بالذات بدل جلبها واستلهامها من تجارب حكم دينى أخرى ممتازة كتلك التى نراها فى الصومال والسودان وأفغانستان (ولا أقول السعودية، لأن «الرخصة» فاز بها سلفيو التطبيع) ومع ذلك عندى سؤال واحد فقط: أليس الأولى والأنفع استيراد وتقليد العقلية السياسية المنفتحة والمتطورة التى يتحلى بها حزب العدالة والتنمية التركى، مما من شأنه أن يساعد إخواننا «الإخوان» هنا على تصميم مشروع نهضوى وطنى مصرى خالص كما فعل رجب طيب أردوجان وصحبه الأتراك؟! وأختم أخيرا بأقوى وأظرف تجليات التحليق فى «الفضاء» والفراغ الفكرى والسياسى، وأقصد إعلان فضيلة مرشد جماعة الإخوان الدكتور محمد بديع قبل أيام اقتراب جماعة فضيلته من تحقيق «الغاية العظمى» المتمثلة فى دولة «الخلافة الراشدة وأستاذية العالم» كله! طبعا نحن نعرف أن «الخلافة الراشدة» التى تحققت قبل نحو 15 قرنا كانت خلافة بعض صحابة النبى محمد -صلى الله عليه وسلم- فى حكم الدولة التى أقامها فى شبه الجزيرة العربية (قبل أن تتسع وتصير إمبراطورية مترامية الأطراف) وهو ظرف تاريخى متفرد واستثنائى وغير قابل للتكرار.. لماذا؟ لأنه لا أحد يماثل النبى العظيم ولا يوجد من يجرؤ على ادعاء أنه فى منزلة صحبه الكرام، وعليه فالحديث عن حكم «الخلافة الراشدة» الآن هو حديث عن أمر يلامس حدود الخرافة شخصيا إلا لو كان المقصود «خلافة» الأستاذ المخلوع حسنى مبارك فى الحكم! فما أبأس هذه «الأستاذية»!...