فى التسويق السياسى فى الحملات الانتخابية الناجحة يوجد عادة ما يسمى ال«positioning»، وترجمتها بالعربية حرفيًّا هى «التموضع»، أى الموضع الذى تختاره كمسوق سياسى كى تضع مرشحك فيه.. هل تقدم مرشحك على أنه مرشح «الأزمة» مثلاً؟ أم مرشح «الحلم» أم أنه رجل «التغيير» أم...؟ الاختيار هنا يتم عادة من قبل من يسوقون المرشح وفقًا لأمور تأخذ فى اعتباراتها الحالة السائدة فى بلد ما، والتى تؤثر على السلوك التصويتى للقطاعات الغالبة التى تستطيع إن خاطبتها التمكن من الفوز. كثر من رؤساء أمريكا إبان الحرب الباردة فى الولاياتالمتحدة كانوا مرشحى الأزمة فى مواجهة السوفييت.. بينما قدم أوباما مثلاً على أنه مرشح «الحلم».. حلم المساواة الحقيقية بين البيض والسود، وحلم تحسين الأوضاع الاجتماعية وتجاوز أزمة الطاقة داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية. فى مصر قُدم لنا السيد عبد الفتاح السيسى من قبل مسوقيه السياسيين منذ اللحظة الأولى على أنه الرجل «القوى»، وأعتقد أن اختيار هذا الوصف من قبل مسوقيه كان فى غاية الذكاء، فبسؤالك للحجة الرئيسية التى يدور حولها النقاش مع مواطن عادى ينوى أن يعطيه صوته سوف يقول لك إن «مصر عايزة واحد قوى». المرشح «القوى».. الكلمة تحمل هيبة فعلاً، وقادرة على التعبئة خلفها، دون حاجة الداعمين والمبتكرين لهذا «التوصيف» إلى التورط فى تفسير القصد من ورائها، فالبعض الكلمة بالنسبة له مرادفة ل«مستبد»، وكونه يخجل من قولها أو كون اللحظة غير ملائمة لها يضطر إلى أن يقول «قوى» وهذ النوع من المؤيدين مقتنع أن الشعب متفرعن ومحتاج الدولة «تربّيه» وبالتالى الكلمة فى أحد مرادفاتها تستهدف أصوات من يريد أن ينتخب مربّيًا ودكتاتورًا وليس حاكمًا يفرض القانون. لكن البعض من المؤيدين أيضًا يرى كلمة «قوى» مرادفة للخلفية العسكرية ظنًّا أن إدارة مؤسسة منضبطة تراتبية تعنى بالضرورة القدرة على إدارة وطن، بينما يرى البعض الآخر أن قوة السيسى تتمثل فى «القدرة على اتخاذ القرار» و«محاربة الإرهاب»، وهو هدف منطقى وسعى لحاجة مشروعة.. لكن دعنى فى تواضع شديد أوضح لك بعض الأمور. ظنى أنه فى حالة السيسى القوة المرادفة ل«القدرة على اتخاذ القرار» هى أمر مشكوك فيه، لعدة أسباب، أولها أنه ليس هناك قرار مسبق أو بوادر صناعة سليمة لقرار، فالقرار كى يتخذ يستلزم وجود رؤية مسبقة وبرنامج وفاعلين فيه، وكلها عناصر غائبة أو هكذا يبدو فى خطاب المرشح وما يطرحه، فالرجل لم يقدم برنامجًا، وحينما وجد نفسه تحت ضغط منافسه ومطالبات منطقية ببرنامج، قدم ما يشبه مجموعة من المقالات التى تم ربطها فى شكل متناسق، مدفوعًا بثقته فى ملكاته أكثر من ثقته فى مهارات أصحاب الخبرات، وما يمكن أن يطلق عليه البعض برنامجًا سياسيًّا أو الحد الأدنى منه، وهذا مقدمة تكريس ضعف لا تأسيس قوة. لقد صدمت مما قدمه فى قضية البطالة ومعالجة أزمة الطاقة والنظام الاقتصادى، وجميعها أطروحات كانت عشوائية وتلقائية ومرتبكة، بل كانت إجاباته أحيانًا الصمت! ومعنى هذا أن من سيطرح القرار فى عهد السيسى (كشريك للحكومة) وفقًا للمعطيات السابقة إما البيروقراطية وإما المقربون وفق النمط القديم أو ظهير اجتماعى بوادره محبطة تراه يتشكل بشكل سلبى. أما فى ما يتعلق بخلفية الرجل العسكرية فمن المؤكد أنها خلفية تمنحه نوعًا من القوة صالحًا لإدارة هيئة نظامية، لكن هذا النوع من القوة غير صالح لإدارة دولة (حال إن كان بعيدًا عن الخبرة السياسية)، فإدارة هيئة نظامية هى أمر يقتضى السمع والطاعة، صدور الأوامر وفق تراتبية التنفيذ، لكن إدارة السياسة هى فعل مختلف، فالإدارة السياسية هى إدارة لصراع، وتفاوض ومواءمة، وكلها مهارات الحصول عليها يتم بالممارسة والخبرة السياسية. لقد سعى البعض لتشبيه عبد الفتاح السيسى بفلاديمير بوتين، سعيًا لاستحضار صورة «القوى» الذى أعاد نفوذًا قيصريًّا قديمًا، وقد أشار هؤلاء إلى أن الخلفية الاستخباراتية لكلا الرجلين قد تعنى نتيجة واحدة! وهذا ليس حقيقيًّا أيضًا، فبوتين قبل أن يكون رئيسًا كان رئيسًا للوزراء وأحد أعمدة الكريملين فى عهد يلتسن بكل ما فيه من مساوئ، أيضًا تولى يلتسن حكم بلد يملك موارد هائلة، وكان استخراجها كافيًا لدفع روسيا من معدل نمو بالسالب إلى معدل نمو دار حول 6 فى المئة فى فترة وجيزة لا تتجاوز سنوات. وأما فى ما يتعلق بمكافحة الإرهاب، وزيادة الطلب الشعبى لمشروع «القوة» فى مواجهة الخوف والإرهاب، فينبغى القول إن العالم المتحضر لم يواجه الإرهاب بأن ترك وزيرًا يحمل هذا الملف منفردًا وفق اجتهاده، فهناك خطط استراتيجية وطنية للمكافحة محتواها طويل ومتوسط وقصير المدى، وتتقاطع مع استراتيجيات للأمن القومى تعلن وتحظى بنقاش حولها لأنها استراتيجية وطنية أكبر من كونها استراتيجية شخص أو مسؤوليته، تتعامل مع مستويات عدة بداية من الجذور (الفقر والثقافة والبطالة وغيرها)، مرورًا بتشريعات غسيل الأموال وعزل الجماعات عن الداعمين وتأسيس أجهزة معلوماتية والدعم الفنى والتكنولوجى، انتهاءً بمستوى التسليح والأفراد وتدريبهم والسياسة الخارجية، وفى قلب كل هذا البحث عن الاتزان ما بين المكافحة وحماية الحقوق، وهذا بالمناسبة لم يكن حاضرًا لدى السيسى سواء السيسى «نائب رئيس الوزراء لشؤون الأمن» بعد فترة كافية للتقييم، أو السيسى المرشح «القوى» للرئاسة!