قبل سنوات انفجرت على أجهزة الكمبيوتر فى مصر «سيديهات» لرجل أعمال شهير، اعتاد تصوير علاقاته بنساء كثيرات، ولم تشفع له أوراق زيجات عرفية فى شرعَنة هذا التصوير. لكن رجل الأعمال الشهير، الذى أخطأ ودفع الثمن، وقيل وقتها إن التنكيل به كان له أبعاد سياسية، لاكَت الصحف سيرته بالصواب والخطأ، لكنه لم يظهر على شاشة تليفزيون، بينما إعلامية أو إعلامى يرتدى عباءة ضابط المباحث ووكيل النيابة والقاضى فى وقت واحد يستجوبه حول فعلته: - عملت كده ليه؟ - ترضى كده لأهل بيتك؟ - إنت عارف إنك غلطان؟ - مافتكرتش ربنا وانت بتعمل كده؟ لكن فى وقت متزامن كان برنامج متخصص فى الجريمة على التليفزيون المصرى يعرض مقابلة مع سائق تم ضبطه، وبحوزته صور فاضحة لامرأة كان يرتبط بعلاقة معها. تركته المرأة فحاول استعادتها عبر ابتزازها بالصور. ولما فشلت محاولاته، استهدفها بماء النار. ولا أتذكر إن كان قد نال حكمًا أم بقى الأمر عند حدود الاتهام. ظهر السائق «المتهم وقتها» يواجه محققًا لم تنص عليه القوانين ولا الإجراءات القضائية، رجل يمسك ميكروفونًا ويحدث السائق البسيط عن جريمته: «مش حاسس بأى ندم؟»، «إنت بتصلى؟»، يرد السائق: «أيوه»، فيباغته المذيع: «مش ممكن.. لو بتصلى ماكنتش عملت كده أبدًا». لم يحاول المذيع أصلًا أن يكون رجل الأعمال ضيفه، لم يفكر فى التنسيق مع مصلحة السجون لإحضار الرجل المهم للمثول أمام الشاشة. لا توجد فوارق قانونية بين رجل الأعمال والسائق، كلاهما وقتها كان متهمًا فى قضية ذات بعد أخلاقى. على العكس شهرة رجل الأعمال وضحاياه كانت تكفى لتثير شهوة أى شاشة، لكن ذلك لم يحدث، لأن رجل الأعمال يستطيع أن يمنع الشرطة من انتهاك حقوقه وتقديمه وجبة خالصة لمذيع بلا ضمير مهنى، ويملك محامين يستطيعون فرض القانون على إدارة السجن، لكن السائق فقير، والمتهم الفقير ليس من حقه أن يشكو إن تم تقديمه فريسة لإعلام ينهش فيه وهو متهم، ويظهر صورته ليلحق به عار لا يمَّحى، ولا يستثنى أطفاله من شهوته الإجرامية. ■ ■ ■ قبل سنوات أقل، تورط رجل أعمال أشهر فى جريمة قتل لمطربة مغمورة، كان الإعلام وقتها قد توسع، لاكَت الفضائيات الجديدة القضية بتحقيقاتها وجلساتها، والشائعات حولها، لكن أحدًا لم يُحضر الرجل مكبلًا لمكتب «البيه المأمور» حتى تستأسِدَ عليه مذيعة وتحقق معه، وربما تسبه أو تطرده، أو تبصق عليه، والأهم أن أحدًا لم يحضر للمذيعة أطفال رجل الأعمال الشهير لتسألهم: - بابا فين؟ - إنتو عارفين إنه فى السجن؟ - طيب هو بابا عمل حاجة غلط؟ - إنتو بتحبوا بابا؟ لكن فى هذه الأثناء وبعدها وحتى يومنا هذا، لا يتورع هؤلاء عن إظهار متهمين «لم تثبت إدانتهم بعد، ولم يصدر فى حقهم أحكام نهائية»، يستأسدون عليهم، ويجلبونهم قسرًا إلى شاشاتهم، ليمارسوا عليهم دور رجال المباحث ودور الواعظين، ينتهكون كرامتهم، ولا يتورعون عن إهدار حقوق أطفالهم، يستجوبونهم كرهًا، ويظهرون وجوههم فخرًا، ويكتبون أسماءهم جهرًا، دون ذنب واضح سوى أنهم فقراء. ■ ■ ■ لا يجرؤ هؤلاء الإعلاميون على اقتحام زنزانة رجل أعمال متهم أو مدان، مهما كانت جريمته. ولا يجرؤ المأمور الذى يورد لهذه الشاشات ضحاياها، أن يفكر مجرد التفكير فى توريد صيد محفظته عامرة بالنقود، لإعلام ينهش الكرامة وينتهك الدستور. بعيدًا عن قيم الإعلام ومعاييره ومدونات سلوكه، وبعيدًا عن القانون ونصوصه التى لم يعد يكترث بها طرفا الجريمة «القناة ومصلحة السجون»، فهذا تمييز صارخ وواضح ودامغ ضد الفقراء.. ولا يعبر سوى عن طبقية رخيصة، لدى إعلام يسمح لمن يملك الثروة وأخطأ أن يعود ويندمج ويغسل سمعته، ويقضى على الفقير ومستقبل ذريته. ليبقى المذيع والمذيعة ينهشان أطفال الفقراء، ويمولان جرائمهما بإعلانات الأغنياء.