ما الذى جرى داخل الأزهر الجامع والجامعة؟ ولماذا الغلو والتزمت الدينى الذى تمددت ملامحه فى الخطاب الدينى وتحولاته نحو نمط من الجمود النقلى، الذى يبدو فى بعض الأحيان حاملاً بعضا من تلاوة وتكرار بعض من الفتاوى القديمة الحاملة لأسئلة زمانها، ومستويات المعرفة السائدة وقتذاك، والتى تبدو فى بعض الأحيان متصادمة مع حياتنا العصرية، وتعقيداتها وتطورات العلوم الطبيعية والاجتماعية والتغير فى أنظمة القيم فى المجتمع المصرى، وفى عالمنا المعولم؟ ثمة عديد من العوامل التاريخية البنائية، وفى السياسة التعليمية، ومناهج التعليم السائدة منذ عديد العقود، سنذكر بعضها على سبيل التمثل لا الحصر فى ما يلى: 1- هيمنة العقل النقلى، بوصفه المثال الذى يتعين على رجل الدين احتذاءه، وذلك لأنه يشكل المرجع للعاملين بالدعوة والإفتاء والفقه، لأنه ساد فى المراحل التأسيسية وتطوراتها فى العلوم الشرعية، فى مراحل تاريخية مختلفة، كان الاعتماد فيها على الشفاهية أساسًا، ومن ثم الميل إلى الحفظ، ومن ثم الاعتماد على الذاكرة الحافظة للنص المقدس، القرآن الكريم والسنة المشرفة للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وما تحمله معها من روح نقدية عارمة، ومشكلات وإشكاليات وتعقيدات فى التركيبة النفسية والإدراكية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، غير المألوفة، ولم تكن جزءًا من شواغل العقل المسلم آنذاك، والإنسان عمومًا فى القرون والعقود الماضية، ومن ثم نحتاج فى هذه اللحظة إلى عقل مجدد ومجتهد وخلاق قادر على استيعاب المتغيرات والتحولات فى عصرنا، وما تفرضه من أسئلة جديدة وإشكاليات معقدة، ومن ثم القدرة على استلهام الإجابات والاجتهادات الجديدة التى تستمد فى أصلابها روح وتقاليد ورصانة الآباء المؤسسين للفقه الإسلامى وعلومه فى مذاهبه على اختلافها. 2- هذه المشكلة الكبرى فى تكوين العقل الأزهرى فى عمومه -وثمة استثناءات لامعة من بين رجالات الأزهر الشريف طيلة تاريخه- ليست جديدة، وإنما طرحت مرارًا وتكرارًا فى عديد العقود طيلة القرن الماضى، ولا تزال، وكانت الإجابة عنها تدور فى مجال العموميات والرؤية الشكلانية، أو المناورة مع الطلب الاجتماعى على التجديد فى العملية التعليمية، أو بروز قوى داخلية مؤثرة وضاغطة ترفض التجديد أو الاجتهاد، البعض داخل الأزهر، من أبرز هذه المحاولات، ما قام به الإمام الأكبر مصطفى المراغى، ومقاومة مشروعه الإصلاحى، وأدى إلى تراجعه عن بعضه، نظرًا لمقاومة بعضهم داخل الأزهر. 3- من أبرز مظاهر حيوية المشرع المصرى فى مجال نظام الأحوال الشخصية لجوؤه فى مجال الإصلاح التشريعى إلى بعض المذاهب الإسلامية الأخرى للتيسير، لا سيما فى مجال حقوق المرأة فى قانون الأسرة، وذلك فى إطار المذهب الحنفى، ويبدو من الأهمية بمكان متابعة بعض الدراسات والاجتهادات فى إطار الفقه المقاصدى استهداءً بالإمام الشاطبى رحمه الله. إن هذه الحكاية يمكنها أن تسهم فى تطوير بعض المباحث الفقهية، وتدفع نحو الاجتهاد فى إطار الضوابط الشرعية والفقهية، وحتى لا تؤدى ذلك إلى تفاقم ظاهرة فوضى وحروب الفتاوى التى نشهدها منذ ثورة عوائد النفط، وظاهرة البترو-فتاوى، 4- منذ ثورة يوليو 1952، وفى ظل مراحلها المختلفة، كان ثمة اعتماد كبير على دور المؤسسة الدينية الأزهرية، فى دعم ومساندة النظام، وشرعيته فى غالب سياساته الاجتماعية والاقتصادية، وفى مواجهة جماعات الإسلام السياسى (الإخوان)، والجماعة الراديكالية والجهادية، وحزب التحرير الإسلامى (الفنية العسكرية)، والمسلمون (التكفير والهجرة)، والجهاد والجماعة الإسلامية، والتوقف والتبين، والقطبيون، وبعض الجماعات الأخرى الصغيرة كالجمهوريين من أتباع محمود محمد طه فى أسوان، وبعض مدعى النبوة، دون المساندة والظهير الدينى للنظام السياسى ونخبته الحاكمة، وسياسته الدينية، ساعدت على الاستدعاء المستمر للجماعة الأزهرية لمواجهة أشكال الخروج عن نمط الوسطية الاعتدالية التى ميزت أنماط التدين المصرى، إلا أن هذا الدور أدى إلى المناورة مع أى مطالب من داخل الأزهر وخارجه إلى ضرورة تطوير العملية التعليمية، ومناهج الدراسة وموادها المقررة. فى بعض الأحيان كان التطوير جزئيًا، وبه بعض من الرؤية الشكلية التى تركز على تغيير بعض المواد، واستبدال مواد أخرى بها فى ظل غياب رؤية تجديدية أو إصلاحية للفكر الدينى الإسلامى الأزهرى وخارجه. 4- ساعد على هذ النمط الجزئى من التغيير فى المواد التعليمية غياب الروئ الإصلاحية والمجددين -إلا قليلا- وفى ذات الوقت الهجوم الضاغط للأيديولوجيات الإسلامية السياسية الراديكالية والإخوانية، والتى تعتمد على نمط تأويلى وانتقالى لبعض التفسيرات والنصوص الفقهية، حول العقائد أو الحكم أو المجتمع.. إلخ، لا شك أن هذه الضغوط أعاقت إمكانيات تطوير السياسة التعليمية وعملياتها ومنهاهجها، من ناحية أخرى يبدو التطور فى العلوم الطبيعية مذهلا، ومن ثم يحتاج إلى المتابعة فى الكليات العملية، وفى تطوير الأجهزة والتقنيات العلمية داخلها والتدريب عليها، لكن تبدو مشكلة الميزانيات المخصصة محدودة. السؤال الذى نطرحه هل كانت هناك رؤية إصلاحية من النظام السياسى والنخبة الحاكمة حول الأزهر ودوره وتعاليمه؟ هذا ما سوف نطرحه فى المقال القادم.