لم تكن العلاقات التى نشأت فى منتصف خمسينيات القرن الماضى بين مصر والاتحاد السوفييتى علاقات شكلية أو بروتوكولية، ولكنها جاءت كنوع من التحدى الواضح لمواجهة النفوذ الأمريكى والاستعمارى عمومًا فى المنطقة العربية والإفريقية والآسيوية، وأثمرت هذه العلاقات عن نتائج فذة، وكانت أولى هذه النتائج صفقة الأسلحة «التشيكية» عام 1955، ثم الشروع فى تمويل مشروع السد العالى، وقصة بناء السد وحدها تكفى لتكون جسرًا قويًّا لقيام علاقات مصرية - سوفييتية عميقة، بعد أن امتنعت بريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية والبنك الدولى عن تمويل المشروع، بعدما رفض جمال عبد الناصر الشروط المجحفة والتعسفية التى فرضتها الجهات الثلاث على مصر، وهى شروط تخل بالسيادة الوطنية آنذاك، ومنها أن تشرف الجهات المانحة على ميزانية مصر لمدة عشر سنوات، وهذا يذكرنا بما حدث لمصر أيام الخديو إسماعيل، والتدخل السافر فى سياسة مصر الاقتصادية، ولكن كان رد عبد الناصر هو الرفض القاطع، ولا مساومة بشكل مطلق على السيادة الوطنية، ثم أعلن بعدها تأميم قناة السويس كشركة مساهمة مصرية، مما دفع أمريكا والغرب إلى مناصبة مصر العداء، واستدعاء سفير مصر لدى أمريكا، وكذلك فى بريطانيا، وإبلاغه برفض الدولتين لسحب عرض تمويل السد العالى، وكذلك فعل مدير البنك الدولى، وفى ذلك الوقت عرض السفير السوفييتى فى القاهرة رغبة بلاده فى الدعم والتعاون مع حكومة مصر لتمويل مشروع السد العالى، وبالفعل حدث ذلك، وبشروط مريحة وغير مجحفة اقتصاديًّا وسياسيًّا، وآنذاك حدث تفاعل كلى بين الدولتين على جميع المستويات، حتى انتهت المرحلة الأولى من بناء السد العالى فى مصر، وها هو الزعيم السوفييتى يأتى إلى مصر ليحضر تحويل مجرى النيل فى منتصف مايو من ذلك العام، ويقف يخطب فى مجلس الأمة المصرى فى صباح يوم الإثنين الموافق 11 مايو 1964، وبجواره الزعيم المصرى جمال عبد الناصر الذى بدأ الترحيب بصديقه الزعيم السوفييتى قائلًا: «أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة، إلى هذا المكان جئت وجاء معى صديق عزيز لوطننا ولأمتنا العربية هو نيكيتا سرجيفتس خروشوف، رئيس الوزراء فى الاتحاد السوفييتى، وإن شعب الجمهورية العربية المتحدة خلال اليومين اللذين قضاهما خروشوف على أرضنا قد لاقاه كما يلاقى الأصدقاء، ولقد جاء إليكم هنا ليلقى شعب الجمهورية العربية المتحدة كله فيكم وليصافح قواه العاملة واقفًا فوق هذه المنصة تحت هذه القبة التى تظل الإرادة المصرية الثورية الحرة متحدثًا إليكم وإلى شعب مصر معكم»، وراح ناصر يسترسل فى خطابه متعرضًا لمتانة العلاقة بين البلدين، ثم تحدث خروشوف بعده حديثًا طويلًا عن إنجازات ثورة يوليو على المستوى السياسى والاقتصادى والاجتماعى، وأبدى فهمًا عميقًا لتلك الإنجازات، متعرضًا لتأميم قناة السويس، وقرارات يوليو الاشتراكية، وأكد ضرورة الاستقلال الاقتصادى الذى يدفع قدمًا إلى استقلال الإرادة الوطنية، وكذلك خطب السيد أنور السادات، الذى كان رئيس مجلس الأمة آنذاك وبدأ خطابه ب:«إنه لما يسعدنا جميعًا أن يكون لقاؤنا اليوم مع صديق عظيم وفى.. لقاء مع القائد المناضل فى عزم وإصرار وثبات من أجل سعادة شعبه وتقدم بلاده.. وإنه لما يملأ القلب أملًا وتفاؤلًا فى المستقبل أن تلتقى الشعوب، وأن يلتقى القادة على طريق السلام وتقدم البشرية.. وإذا كنا نلتقى اليوم بسعادة الرئيس نيكيتا خروشوف فليس هذا لقاءنا الأول.. لقد التقينا به من قبل مرات ومرات»، وراح السادات يتحدث عن المستقبل الباهر الذى ينتظر البلدين، والجدير بالذكر أن الأقدار شاءت أن تكون القطيعة بين البلدين على يد السادات نفسه فى يوليو عام 1972، بعدما جاء خلفًا لجمال عبد الناصر بعد رحيله، وبعدما انحاز السادات إلى الطرف الأمريكى فى الصراع العالمى، وما سمى آنذاك قضية «طرد الخبراء الروس من مصر». وفى أثناء زيارة خروشوف لمصر فى ذلك الوقت، فتحت الصحف ملف المناضل نيكيتا خروشوف، ابن الفلاح الفقير، بل هو من أفقر الأسر السوفييتية، وكان يرعى البقر مع أبيه فى الحقول، وظل يناضل حتى وصل إلى أعلى المناصب الرفيعة فى بلاده، وكذلك رافق الوفد السوفييتى إلى مصر، السفير المصرى مراد غالب وحرمه السيدة شكرية، والتى تتقن اللغة الروسية، وتقيم فى موسكو مع زوجها منذ 11 عامًا، وهى صديقة شخصية لزوجة موسكو الأولى السيدة نينا خروشوف، وقد التزمت بمرافقتها فى مصر، على عكس ما حدث فى ما بعد، أن تقتصر مرافقة زوجات الرؤساء الضيوف، على زوجة الرئيس المصرى، وفى ذلك السياق التقى وزير الخارجية المصرى نظيره السوفييتى للتنسيق والإعداد لمؤتمر القمة الآسيوى الإفريقى «باندونج الثانى»، وقد كان انعقاد «باندونج الأول» فى أبريل عام 1955.