منذ شهرين غادرتُ من القاهرة إلى كندا وعُدْت فى طائرة سبحت فى الظلام أغلب ساعات الرحلة الطويلة، هاربةً ليلا من البلدين.. عبرت سماوات بلاد غريبة نائمة فى أمان، كما تبدو.. لما اقتربنا من خريطة كندا رفعت الشمس رأسها تحتنا ببطء، رموش عينيها ارتفعت تشقّ السُّحب الكئيبة ثم تفرد أشعتها أجنحة نسور عملاقة تغزو الظلام، تحتضن الأرض، تطمئنها وتسبح بقدرة الخالق العظيم. مشهد الشروق مهيب عظيم. الشمس قامت تحرّر الأرض من قبضة الظلام، تطلق سهامًا وسيوفًا ذهبية، تقتنص يوما جديدا للبشرية، تضىء العشش والقصور، تُشرِق على الأبرار والأشرار، الغبى والحكيم، الزاهد والطمَّاع.. لكن هل يختلف ليل كندا عن ليل القاهرة؟! وهل يختلف الصباح؟ هل ينام المهاجرون فى أحضان وعيون الدولة أم فى دفاترها وخلف أبوابها؟ ماذا تريد منهم وماذا يلتمسون منها؟ ذهبتُ بأسئلة وعدتُ بسؤال: ماذا نحن فاعلون بهدايا السماء المجانية؟! ماذا فعل الإنسان بمنحة الحياة؟ روّضها لمطامعه، عاندَها وعاندتْه، ساومتْه.. وهل تصالحا وابتسما؟ هل تعادلت لحظات الرضا والألم؟ وما ميراث الذكرى والأعمال الذى تركه الإنسان على الأرض؟! فى رحلة الذهاب أعدتُ قراءة رواية «أيقونة قبطية» على ضوء مصباح الكرسى وسط النيام كأننى أسلّم رسالة المؤلف للسماء.. وفى رحلة العودة تأكدت من عودته معى من صوت نبضات قلب المؤلف فى حقيبتى الصغيرة، وهو أب يحكى تجربته مع هدية السماء إليه، طفل مختلف، ويمزجها بأفراح وأوجاع الوطن لأن كليهما جزء منه.. تعمدت اصطحابهم معى إلى قارة بعيدة هرب إليها ملايين المصريين بحثًا عن المدينة الفاضلة.. خافوا من موجة تخلُّف وتآمر وإرهاب زلزلت أساسات الدولة الشامخة وبدلا من المقاومة هربوا ليدفعوا الغربة ثمنا قاسيا لهم والافتقاد ثمنا أقسى لنا. مؤلف رواية «أيقونة قبطية» هو د.عادل ناشد الطبيب الأديب، هو لم يؤلفها إنما قدم مزيجا من الاعتراف والسرد والدهشة والتقييم لتجربته الخاصة فى الحياة.. اقترب جدا من أوتار حساسة تتألم.. نجح فى عبور بعضها بالاعتراف، وتجنب أغلبها وهى التفاصيل الصغيرة لحياة بلا أمل مع طفل مختلف ينمو جسده فقط -35 عاما الآن- تجنب الاقتراب من نوبات الهياج والغضب المخيفة الخطرة على حياة الطفل نتيجة عجزه عن التعبير والتواصل مع الآخرين، وآلام مراقبته وتقييده لحمايته من نفسه، لكن فضح غباء وعمى قلوب البشر باختياره تسجيل لحظات البراءة الصافية والنقاء الإنسانى لابنه المميز الذى امتلك أجمل وجوه الأطفال وقلوبهم.. فَهِم د.عادل بعد صبر وجدل أن الله اختاره لمنحه أيقونة غالية لهدف نبيل فرسم تفاصيل روايته الإنسانية على مهل وببراعة حكيم، مزج آلامه الخاصة بآلام وطنه مصر، كأنه شاعر جالس على البحر يترنم على الربابة ويلوِّن أيقونته. استبدل د.عادل ناشد فى التلوين أقنعة الأب والطبيب والزوج والمواطن والمحقق والقاضى والراوى والفيلسوف الذى يسلط كشافًا على منحة الطفل المختلف «ابن اليوم الثامن الذى لا يعرف الشر، كرسالة السماء وليس كمأساة أو عقاب.. ومَن ينجح فى فك الشفرة ينعم بقراءة وامتلاك سر تنوّع واختلاف البشر فى الحياة، ويرى الله مشرقا». تعذب د.عادل كأب ليجد مَن يحتمل ويساعد فى رعاية ابنه الوحيد.. سافر شرقا وغربا ففضح القلوب القاسية التى ترتدى المُسوح، حتى أنشأ مع عائلة زوجته الدار الإنسانية الحلم، دارًا متكاملة لرعاية الأطفال المعاقين.. من عمق الألم امتلك د.عادل وزوجته عايدة نبع سلام يميزهما ويغمر من يعرفهما، سلام نابع من تسلم رسالة الله والثقة فى مشيئته ورحمته وعدله، سلام أراه على وجوه المعاقين وأبويهم وبعد قراءة الكتاب لم يعد يدهشنى. التقيت وجوها وقلوبا مصرية مغتربة فى رحلتى الإجبارية لكندا.. ابتسامات الناجحين والناجين من الغربة منهم كالغروب، عكس ابتسامة د.عادل الهادئة الشافية لأنها شروق.. وسأحكى هنا عن مصر فى كندا بإذن الله. كلمتى الأخيرة إلى وزير الثقافة والتنوير د.صابر عرب.. إذا نجحتَ فى العثور على نسخة من كتاب «أيقونة قبطية» فى الإسكندرية فبادِر بطباعته وتوزيعه لأنه عمل أدبى وإنسانى متميز.. وأنا مستعدة أسلّفك نسختى.