كتبتُ أحكى للقراء عن قصة حب فى بواكير الصبا، كانت بطلتها ماجدة ابنة الجيران التى ذوّب قلبى زواجها وابتعادها، بينما كنت أبنى لها قصورا فى الخيال. وقد لفت نظرى تعليق جميل لأحد القراء خاطبنى فيه قائلا: «أنت تعذبت قليلا لأنك لم تتزوج ماجدة، وأنا تزوجت ماجدة فشقيت العمر كله». دفعنى هذا التعليق لتخيل فكرة أن يقوم زوج ماجدة بتركها طواعية وإهدائها لى لأعوض بها السعادة التى فاتنى تحقيقها منذ ربع قرن. للوهلة الأولى قلت لنفسى: هذا رجل فقرى لا يقدر النعمة التى فى يده، ولا يفهم الحرمان الذى قاسيته فى غيابها، ولا شك أنه عندما اقترن بها كان رجلا مجربا ولم تكن هى قصته الأولى، وربما اختارها أو اختاروها له بالعقل دون أى عواطف. ومن المؤكد أن حصوله السهل عليها وحضورها الدائم لديه لم يمنحه الفرصة ليفتقدها ويقاسى الويل فى غيابها، والشوق لا يعرفه كما يقولون إلا من يكابده. ومع هذا فقد اعترض تفكيرى فكرة مختلفة تقول إن هذا الرجل قد عرف ماجدة على نحو لم يتح لى واقترب منها جدا لدرجة لم تسمح بوجود الخيال، ولا شك أنه قد رآها مئات المرات وهى صاحية من النوم بشعر منكوش، وشم رائحة الثوم فى ملابسها وهى بالمطبخ، وربما استمع إليها وهى تتجشأ بعد وجبة دسمة، كما أنه قد دخل معها فى نقاشات حادة حول مصروف البيت وصعوبة المعيشة. الخلاصة أن الوهم بينهما سقط، ولهذا فلا يمكن أن يراها بنفس العين التى أراها بها. لكنى مع هذا قلت لنفسى ما الغريب فى كل ما فات؟ وهل يتلاشى الحب لأننا لم نجد المحبوب كائنا نورانيا شفافا كما تخيلناه، واتضح أنه إنسان مثلنا يأكل ويفرز العرق ويحتاج للحمّام!.. لكن رويدك.. من أدراك أنه ضجر من ماجدة لهذا السبب؟ ربما لديه أسباب موضوعية تتعلق بالطبع والعادات.. من أدراك أنها ليست أنانية؟ ومن أين تعرف أنها كانت ستقف معك فى وجه العواصف والأنواء التى صادفتها فى حياتك؟.. يبدو أن الموقف معقد للغاية.. لكن ماذا أفعل؟ هل أقبل الهدية وأبدأ مع ماجدة من جديد لتعويض قصة الحب التى لم تتم.. أم آخذ العبرة من هذا الرجل وأؤثر السلامة؟ فى الحقيقة إنه من الممكن أن أضرب صفحا عن آثار الزمن.. عن الشكل الذى تغير والتجاعيد التى ظهرت والقوام الذى فقد تماسكه، عن شكل الملابس التى اختلفت والشعر الذى اختفى تحت الغطاء، لكن المشكلة تظل أعمق من ذلك.. المشكلة أن تجارب الحياة تفقد الإنسان شيئا عزيزا هو البراءة، ولهذا فإن الشاعر صلاح عبد الصبور كان مستعدا لأن يدفع ما تبقى من حياته لقاء لحظة واحدة من البراءة، وعليه فإن أى مظاهر للدهشة سأراها على وجهها ستكون متكلفة وغير حقيقية، بعد أن قامت السنون بالواجب وأرتها كل شىء! ولا شك أننى سأفتقد ارتعاشة اليد التى تحدث للأنثى عند اللمسة الأولى، كما لن أرى إحمرار الوجه لدى سماع كلمة غزل، أو احتقانه عند سماع كلمة نابية، وربما تكون قد عرفت بالتجربة أهمية الكذب والالتواء، بخلاف أن الآلام والأحزان التى مرت بها ستكون قد تركت ندوبا فى النفس وأفقدت ابتسامتها الصفاء والعذوبة، هذا غير التلقائية التى رحلت بفعل الخوف من المستقبل، والتشاؤم الذى حل بفضل ضربات الزمن، والأهم من كل هذا، ذلك الوهم الجميل الذى لن أستطيع استحضاره.. صحيح هو مؤقت لكنه أساسى لاحتمال وعثاء الطريق بعد ذلك. لهذا فأغلب الظن أننى سأرفض الهدية التى تشبه طوق نجاة مخروم، ألقى إلى رجل بعد أن صارع الموج وكاد يصل إلى الشط!